الاستدراك المستفاد من ( لكن ) ناشئ عن قوله ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) لأنه اقتضى أن لبعضكم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحا بهم في أشياء كثيرة تعرض لهم .
والمعنى : ولكن الله لا يأمر رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مرادا منه الاعتقاد فان اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في معنى قوله تعالى ( حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ولذا فكونه حبب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز . والتقدير : ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم .
A E وفي قوله ( وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق قال تعالى ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ) إلى قوله ( هم الظالمون ) .
والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) تحذيرا لهم من الحياد عن مهيع الإيمان وتجنيبا لهم ما هو من شأن أهل الكفر .
فالخبر في قوله ( حبب إليكم الإيمان ) إلى قوله ( والعصيان ) مستعمل في الإلهاب وتحريك الهمم لمراعاة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصيان فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه . وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية من آثار الكفر والفسوق والعصيان .
وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة .
وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حبب إليه ونبذ ما كره إليه .
وعدي فعلا ( حبب ) و ( كره ) بحرف ( إلى ) لتضمينها معنى بلغ أي بلغ إليكم حب الإيمان وكره الكفر .
ولم يعد فعل ( وزينه ) بحرف ( إلى ) مثل فعلي ( حبب ) و ( كره ) للإيماء إلى أنه لما رغبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبوا الإيمان وزان في قلوبهم .
والتزيين : جعل الشيء زينا أي حسنا قال عمر بن أبي ربيعة : .
أجمعت خلتي مع الفجر بينا ... جلل الله ذلك الوجه زينا وجملة ( أولئك هم الراشدون ) معترضة للمدح . والإشارة ب ( أولئك ) إلى ضمير المخاطبين في قوله ( إليكم ) مرتين وفي قوله ( قلوبكم ) أي الذين أحبوا الإيمان وتزينت به قلوبهم وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون أي هم المستقيمون على طريق الحق .
وأفاد ضمير الفصل القصر وهو قصر إفراد إشارة الى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين .
وانتصب ( فضلا من الله ونعمة ) على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال ( حبب وزين وكره ) لأن ذلك التحبيب والتزيين والتكريه من نوع الفضل والنعمة .
وجملة ( والله عليم حكيم ) تذييل لجملة ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته . . والواو اعتراضية .
( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [ 9 ] ) لما جرى قوله ( أن تصيبوا قوما بجهالة ) الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبيين فيها أعسر وقد لا يحصل التبيين إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة