والحبط : تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتل وربما هلكت وفي الحديث " وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم " . وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) .
A E وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن من الأعمال الإيمان فمعنى الآية : أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر . قال ابن عطية : أي يكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال . وأقول : لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر . وهذا معنى ( وأنتم لا تشعرون ) لآن المنتقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلا حتى تغمره المعاصي وربما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك .
ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى .
ففي قوله ( وأنتم لا تشعرون ) تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه .
( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ 3 ] ) عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) كان أبو بكر لا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار أي مصاحب السر من الكلام فأنزل الله تعالى ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) الآية . فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله ( أن تحبط أعمالكم ) الخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته .
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم وتفيد الجملة تعليل النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله ( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجل ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة .
وإذ قد علمت آنفا أن محصل معنى قوله ( لا ترفعوا أصواتكم ) وقوله ( ولا تجهروا ) الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك وجه العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده .
والغض حقيقته : خفض العين أي أن لا يحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لخفض الصوت والميل به إلى الإسرار .
والامتحان : الاختبار والتجربة وهو افتعال من محنه إذا اختبره وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم : اضطره إلى كذا .
واللام في قوله ( للتقوى ) لام العلة والتقدير : امتحن قلوبهم لأجل التقوى أي لتكون فيها التقوى أي ليكونوا أتقياء يقال : امتحن فلان للشيء الفلاني كما يقال : جرب للشيء ودرب للنهوض بالأمر أي فهو مضطلع به ليس بوان عنه فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال ما غير متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم ويجوز أن يجعل فعل ( امتحن ) مجازا مرسلا عن العلم أي علم الله أنهم متقون وعليه فتكون اللام من قوله ( للتقوى ) متعلقة بمحذوف هو حال من قلوب أي كائنة للتقوى فاللام للاختصاص