وجملة ( إن الله سميع عليم ) في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله .
والسميع : العليم بالمسموعات والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر .
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 2 ] ) إعادة النداء ثانيا للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى .
وهذا أيضا توطئة لقوله ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) وإلقاء لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم .
A E والرفع : مستعار لجهر الصوت جهرا متجاوزا لمعتاد الكلام شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشد بلوغا إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار على طريقة الاستعارة المكنية أو شبه إلقاء الكلام بجهر قوي بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية .
و ( فوق صوت النبي ) ترشيح لاستعارة ( لا ترفعوا ) وهو فوق مجازي أيضا .
وموقع قوله ( فوق صوت النبي ) موقع الحال من ( أصواتكم ) أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد .
ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه .
والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضكم بعضا كما وقع في صورة سبب النزول .
ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده .
وفي صحيح البخاري : قال ابن الزبير فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الآية حتى يستفهمه . ولم يذكر " أي ابن الزبير " ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حميد عن أبي هريرة : أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية " والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله " .
وفي صحيح البخاري قال ابن أبي مليكة " كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم " .
وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد وبغير ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذنا خاصا كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين " ناد يا أصحاب السمرة " وكان العباس جهير الصوت .
وقوله ( ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضى قوله ( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) ومقتضى ( ولا تجهروا له بالقول ) .
واللام في ( له ) لتعدية ( تجهروا ) لأن ( تجهروا ) في معنى : تقولوا فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته وزاده وضوحا التشبيه في قوله ( كجهر بعضكم لبعض ) .
وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصا من المقدمة إلى الغرض المقصود ويظهر حسن موقع قوله بعده ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) .
و ( أن تحبط أعمالكم ) في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم فحبط الأعمال بذلك مما يحذر منه فجعله مدخولا للام التعليل مصروف عن ظاهر . فالتقدير : خشية أن تحبط أعمالكم كذا يقدر نحاة البصرة في هذا وأمثاله . والكوفيون يجعلونه بتقدير ( لا ) النافية فيكون التقدير : أن لا تحبط أعمالكم فيكون تعليلا للنهي على حسب الظاهر