ومن المفسرين من حمل ( من ) الموصولة في قوله ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) على معين فقال مقاتل : هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل : والله إني لأعلم إنه لصادق فقال له المغيرة : مه وما دلك على ذلك قال : كنا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن ! قال : فما يمنعك أن تؤمن به قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة واللات والعزى إن اتبعته أبدا فنزلت هذه الآية . وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى ( وأضله الله على علم ) ظاهرة . وعن مقاتل أيضا : أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يعبد من الأصنام ما تهواه نفسه .
A E وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث " أرحنا بها يا بلال " يعني الإقامة للصلاة . وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " وعن أبي الدرداء " إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح " .
وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة .
قال عمرو بن العاصي : .
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما .
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... اذا ذكرت أمثالها تملأ الفما ومن الكلمات المأثورة " ثلاث من المهلكات : شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه " ويروى حديثا ضعيف السند .
وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سورة البقرة ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) لأن المخبر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العقد صارفا السمع عن تلقي الآيات فقدم لإفادة أنهم كالمختوم على سمعهم ثم عطف عليه و ( قلبه ) تكميلا وتذكيرا بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما ( على بصره ) من شبه الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات .
وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ الهوى كالإله أصلا في وصف حالهم في آية سورة الجاثية . فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبع .
وقرأ الجمهور ( أفلا تذكرون ) بتشديد الذال . وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع ( تتذكرون ) . فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالا لتقارب مخرجيهما قصدا للتخفيف وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين .
( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون [ 24 ] ) هذا عطف على جملة ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيرا من عقبى المسلمين يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلا وإنما يقينهم قولهم ( ما هي إلا حياتنا الدنيا ) .
وتقدم في سورة الأنعام ( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) وضمير ( هي ) ضمير القصة والشأن أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا أي الحاضرة القريبة منا أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث ويجوز أن يكون ( هي ) ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حصرا لجنس الحياة في الحياة الدنيا