لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عن غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم فعطف بالفاء الاستفهام المستعمل في التعجيب وجعل استفهاما عن رؤية حالهم للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية .
وأصل التركيب : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) الخ فقدمت همزة الاستفهام والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود من معه من المسلمين أو الخطاب لغير معين أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب .
A E و ( من ) الموصولة صادقة على فريق المستهزئين الذين حسبوا أن يكون محياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ) الخ .
والمعنى : أن حجاجهم المسلمين مركز على اتباع الهوى والمغالطة فلا نهوض لحجتهم لا في النفس الأمر ولا فيما أرادوه على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدى فلا يستطيع غيره هداهم .
و ( إلهه ) يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمرا .
ويجوز أن يبقى ( إلهه ) على الحقيقة ويكون ( هواه ) بمعنى مهويه أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتهم لأنهم أحبوها أي ألفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها كقوله تعالى ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) .
ومعنى ( أضله الله ) أنه حفهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها . فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع فالمواعظ والبراهين وقلوبهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها وأبصارهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أن بعد هذا العالم بعثا وجزاء .
ومعنى ( على علم ) أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم أي عقول سليمة أو مع أنهم بلغهم العلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام .
فحرف ( على ) هنا معناه المصاحبة بمعنى ( مع ) وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف . وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني ( على ) كما في قول الحارث بن حلزة : .
فيقينا على الشناءة تنمينا ... حصون وعزة قعساء والمعنى : أنه ضال مع ما له من صفة العلم فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى .
وقرأ الجمهور ( غشاوة ) بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف . وقرأه حمزة والكسائي وخلف ( غشوة ) بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة .
وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة .
وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غير الله يستطيع أن يهديهم والمراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أسفه لأغراضهم وبقائهم في الضلالة .
و ( من بعد الله ) بمعنى : دون الله وتقدم عند قوله تعالى ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) آخر سورة الأعراف .
وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة أي كيف نسوها حتى ألحوا في الطمع بهداية أولئك الضالين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري