وجملة ( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ) تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون ويتضمن تعليل الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئا يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه .
والإغناء : جعل الغير غنيا أي غير محتاج فالآثم المهدد من قدير غير غني عنه الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه وضمن فعل الإغناء معنى الدفع فعدي ب ( عن ) . وانتصب ( شيئا ) على المفعول المطلقن و ( من الله ) صفة ل ( شيئا ) . و ( من ) بمعنى بدل أي لن يغنوا عنك بدلا من عذاب الله أي قليلا من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف وتقدم عند قوله تعالى ( إن الذين كفروا لن نغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) في آل عمران .
وعطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو ( وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ) أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم . وذيل ذلك بقوله ( والله ولي المتقين ) وهو يفيد أن التبيء صلى الله عليه وسلم الله وليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول المتقين .
( هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون [ 20 ] ) إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئة لأغراضها تنبيها لما في طيها من عواصم عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف ( بلاغ ) وقوله في سورة الأنبياء ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) .
وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافا أعيد بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريض بتحميق الذين أعرضوا عنه وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفا ( هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم ) وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضا بأنهم لم يحظوا بهذه البصائر وكلا الاحتمالين رشيق وكل بأن يكون مقصودا حقيق .
و ( بصائر ) : جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها شبهت ببصر العين وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى ( أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) في سورة يوسف . وقال ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) في سورة الإسراء وقوله ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس ) في سورة القصص .
ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر . وجمع البصائر : إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله ( للناس ) لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكون صاحب كل بصيرة جزئيا مشخصا فناسب أن تورد جمعا فالبصيرة : الحاسة من الحواس الباطنة وهذا بخلاف إفراد ( هدى ورحمة ) لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى ( هدى للناس ) وقال ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) . وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود . وإنما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفرادا وجماعات في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي . وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة .
وجعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته .
وذكر لفظ ( قوم ) للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين .
والإيقان : العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه . وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله .
A E