والبغي : الظلم . والمراد : أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغيا منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظا ومعاني .
وانتصب ( بغيا ) أما على المفعول لأجله وإما على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل ( اختلفوا ) وإن كان منفيا في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتا وما عدا ذلك غير منفي .
وجملة ( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن خبرهم العجيب يثير سؤالا في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيقضى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقا ومبطلا .
ونظير هذه الآية قوله تعالى ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) في سورة يونس .
( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 18 ] إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين [ 19 ] ) ( ثم ) للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو . وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف ( ثم ) أهم من مضمون الجملة المعطوف عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجة على الدليل .
وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر فنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه وحكمه وبيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك .
و ( على ) للاستعلاء المجازي أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى ( أولئك على هدى من ربهم ) .
وتنوين ( شريعة ) للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي .
والشريعة : الدين والملة المتبعة مشتقة من الشرع وهو : جعل طريق للسير وسمي النهج شرعا تسمية بالمصدر . وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك قال الراغب : استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيها بشريعة الماء قلت : ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير .
والأمر : الشأن وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى قال تعالى ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) فتكون ( من ) تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفا ( وآتيناهم بينات من الآمر ) لأن إضافة ( شريعة ) إلى ( الأمر ) تمنع من ذلك .
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغا عظيما إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى وأنها شريعة عظيمة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها والدعوة إليها .
ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله ( فاتبعها ) أي دم على اتباعها فالأمر لطلب الدوام مثل ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) .
وبين قوله ( فاتبعها ) وقوله ( ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) محسن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر .
و ( الذين لا يعلمون ) هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) .
والأهواء : جمع هوى وهو المحبة والميل . والمعنى : أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين .
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . والمقصود منه : إسماع المشركين لئلا يطمعوا بصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحين يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) .
وفيه أيضا تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون . وعن ابن عباس " أنها نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه " قال البغوي : كانوا يقولون له : ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك .
A E