وقد بسط في ذكر النظير من بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طوي من مثل بعضه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازا في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ) وقوله هذا ( هدى ) فإن ذلك يقابل قوله هنا ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ) ومثل قوله ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) فإنه يقابل قوله هنا ( ورزقناهم من الطيبات ) ومثل قوله ( يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا ) إلى ( لهم عذاب مهين ) فإنه يقابل قوله هنا ( وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) ومثل قوله ( ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) فإنه مقابل قوله هنا ( إن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) .
والكتاب : التوراة .
والحكم يصح أن يكون بمعنى الحكمة أي الفهم في الدين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى ( وآتيناه الحكم صبيا ) يعني يحيى ويصح أن يكون بمعنى السيادة أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى ( وجعلكم ملوكا ) والنبوة أن يقوم فيهم أنبياء .
ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة : إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور .
وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبنا وعسلا كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برا والمغرب بحرا . والطيبات : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعما ومنظرا ونفعا وزينة .
وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق وبين حكم أنفسهم بأنفسهم وبث أصول العدل فيهم وبين حسن العيش والأمن والرخاء فإن أمما أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضها استقامة الدين والخلق وبعضها عزة حكم النفس وبعضها الأمن بسبب كثرة الفتن .
والمراد ب ( العالمين ) : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عما آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم .
و ( بينات ) صفة نزلت منزلة الجامد فالبينة : الحجة الظاهرة أي آتيناهم حججا أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطأ إلى نفوسهم سبلا إلا سدتها .
والأمر : الشأن كما في قوله ( وما أمر فرعون برشيد ) والتعريف في ( الأمر ) للتعظيم أي من شؤون عظيمة أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئا مهما من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه .
و ( من ) في قوله ( من الأمر ) بمعنى ( في ) الظرفية فيحصل من هذا أن معنى ( وآتيناهم بينات ) من الأمر : علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطأ والخطل .
وفرع على ذلك قوله ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ) تفريع إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها . وتقدير الكلام : فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فحذف المفرع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حين لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفا من الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر ولو اختلفوا قبل ذلك لكان لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى ( وأضله الله على علم ) .
وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملطوف به في رسالته .
A E