قال : أبو علي : هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر : حكما عدلا وأخرج اللفظ مخرج التنكير ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف ا ه . والأظهر أن ( قوما ) مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط .
A E والمعنى : ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيدا للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعدا للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) . وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله ( ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) . ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها وتقدم نظيره في سورة فصلت .
وقرأ الجمهور ( ليجزي قوما ) بتحتية في أوله والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله ( أيام الله ) . وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات . وقرأه أبو جعفر بتحية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للجمهول ونصب ( قوما ) . وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل ( يجزي ) . والتقدير : ليجزي الجزاء . و ( قوما ) مفعول ثان لفعل ( يجزى ) من باب كسا وأعطى . وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولا أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى ( ثم يجزاه الجزاء الوفي ) .
وقوله ( ثم إلى ربكم ترجعون ) أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم .
وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيدا عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله وقد تقدمت نظائره .
( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين [ 16 ] وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [ 17 ] ) الوجه أن يكون سوق خبر بني إسرائيل هنا توطئة وتمهيدا لقوله بعده ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) أثار ذلك ما تقدم من قوله ( ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ) إلى قوله ( اتخذها هزؤا ) ثم قوله ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) فكان المقصد قوله ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر ) ولذلك عطفت الجملة بحرف ( ثم ) الدال على التراخي الرتبي أي على أهمية ما عطف بها .
ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب ) الآيتين بعد قوله ( جعلناك على شريعة من الأمر ) فيكون دليلا وحجة له فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيدا قصدا للتشويق لما بعده وليقع ما بعده معطوفا ب ( ثم ) الدالة على أهمية ما بعدها .
وقد عرف من تورك المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ) وقولهم ( لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة ) فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله ( ويل لكل أفاك أثيم ) إلى قوله ( وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا ) وقوله ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) فالجملة معطوفة على تلك الجمل .
وأدمج في خلالها ما اختلف فيه بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم لما فيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة قومه دعوته تنظيرا في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه .
ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ) تأكيدا للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين بني إسرائيل .
A E