ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤا : أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العلم بشيء منها . ومن الاستهزاء ببعض الآيات تحريفها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمدا للاستهزاء كقول أبي جهل لما سمع ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ) تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال " زقمونا " وقوله : لما سمع قوله تعالى ( عليها تسعة عشر ) : أنا ألقاهم وحدي .
( أولئك لهم عذاب مهين [ 9 ] من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ 10 ] ) جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى ( لكل أفاك أثيم ) إلى قوله ( هزؤا ) على أن المشار إليهم أحرياء به لأجل ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف .
A E وجملة ( من ورائهم ) بيان لجملة ( ولهم عذاب مهين ) . وفي قوله ( من ورائهم ) تحقيق لحصول العذاب وكونه قريبا منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدو يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمنا .
ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة ومنه قوله تعالى ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) وقول لبيد : .
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا ؟ تحنى عليها الأصابع ومن فسر وراء بقدام فما رعى حق الكلام .
وعطف جملة ( ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ) على جملة ( من ورائهم جهنم ) لأن ذلك من جملة العذاب المهين فإن فقدان الفداء وفقدان الولي مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة .
ومعنى الإغناء في قوله ( ولا يغني عنهم ) الكفاية والنفع أي لا ينفعهم .
وعدي بحرف ( عن ) لتضمينه معنى يدفع فكأنه عبر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم وتقدم في قوله ( لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) في سورة آل عمران .
و ( ما كسبوا ) : أموالهم .
و ( شيئا ) منصوب على المفعولية أي شيئا من الإغناء لأن ( شيئا ) من أسماء الأجناس العالية فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده وتنكيره للتقليل أي لا يدفع عنهم ولو قليلا من جهنم أي عذابها .
( ولا ما اتخذوا ) عطف على ( ما كسبوا ) وأعيد حرف النفي للتأكيد و ( أولياء ) مفعول ثان ل ( اتخذوا ) . وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير .
وأردف ( عذاب مهين ) بعطف ( ولهم عذاب عظيم ) لإفادة أن لهم عذابا غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر فالعذاب الذي في قوله ( ولهم عذاب عظيم ) غير العذاب الذي في قوله ( أولئك لهم عذاب مهين ) .
( هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم [ 11 ] ) جملة ( هذا هدى ) استئناف ابتدائي انتقل به من وصف القرآن في ذاته بأنه منزل من الله وأنه من آيات الله إلى وصفه بأفضل صفاته بأنه هدى فالإشارة بقوله ( هذا ) إلى القرآن الذي هو في حال النزول والتلاوة فهو كالشيء المشاهد ولأنه قد سبق من أوصافه من قوله ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) وقوله ( تلك آيات الله ) إلى آخره ما صيره متميزا شخصا بحسن الإشارة إليه .
ووصف القرآن بأنه ( هدى ) من الوصف بالمصدر للمبالغة أي : هاد للناس فمن آمن فقد اهتدى ومن كفر به فله عذاب لأنه حرم نفسه من الهدى فكان في الضلال وارتبق في المفاسد والآثام .
فجملة ( والذين كفروا ) عطف على جملة ( هذا هدى ) والمناسبة أن القرآن من جملة آيات الله وأنه مذكر بها فالذين كفروا بآيات الله كفروا بالقرآن في عموم الآيات وهذا واقع موقع التذييل لما تقدمه ابتداء من قوله ( ويل لكل أفاك أثيم ) .
وجيء بالموصول وصلته لما تشعر به الصلة من أنهم حقيقون بالعقاب .
واستحضروا في هذا المقام بعنوان الكفر دون عنواني الإصرار والاستكبار اللذين استحضروا بهما في قوله ( ثم يصر مستكبرا ) لأن الغرض هنا النعي عليهم إهمالهم الانتفاع بالقرآن وهو النعمة العظمى التي جاءتهم من الله فقابلوها بالكفران عوضا عن الشكر كما جاء في قوله تعالى ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .
والرجز : أشد العذاب قال تعالى ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )