وقوله ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) و ( بعد ) هنا بمعنى ( دون ) . فالمعنى : فبأي حديث دون الله وآياته وتقدم قوله تعالى ( ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده ) في سورة الشورى وفي الأعراف ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) . والاستفهام في قوله ( فبأي حديث ) مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى : .
" فمن أي ما تأتي الحوادث أفرق وإضافة ( بعد ) إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله ( فبأي حديث ) والتقدير : بعد حديث الله أي بعد سماعه كقول النابغة : .
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل أي على مخافة وعل .
واسم ( بعد ) مستعمل في حقيقته .
والمراد بالحديث : الكلام يعني القرآن كقوله ( الله نزل أحسن الحديث ) وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) وفي آخر المرسلات ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) .
A E وعطف و ( آياته ) على ( حديث ) لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السماوات والأرض مما تقدم في قوله ( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب ( يؤمنون ) بالتحتية . وقرأه أبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات .
( ويل لكل أفاك أثيم [ 7 ] يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم [ 8 ] وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا ) أعقب ذكر المؤمنين الموقنين العاقلين المنتفعين بدلالة آيات الله وما يفيده مفهوم تلك الصفات التي أجريت عليهم من تعريض بالذين لم ينتفعوا بها بصريح ذكر أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعقلوها كما وصف لذلك قوله ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) .
وافتتح ذكره بالويل له تعجيلا لإنذاره وتهديده قبل ذكر حاله . و ( ويل له ) كلمة دعاء بالشكر وأصل الويل الشر وحلوله .
و ( الأفاك ) القوي الإفك أي الكذب .
والأثيم مبالغة أو صفة مشبهة وهو يدل على المبالغ في اقتراف الآثام أي الخطايا . وفسره الفيروز آبادي في القاموس بالكذاب وهو تسامح وإنما الكذب جزئي من جزئيات الأثيم .
وجعلت حالته أنه يسمع آيات الله ثم يصر مستكبرا لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبرا عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم فلا جرم أن يكون أفاكا أثيما بله ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم .
والمراد ب ( كل أفاك أثيم ) جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا ( لن نؤمن بهذا القرءان ولا بالذي بين يديه ) وبخاصة زعماء أهل الشرك وأيمة الكفر مثل النضر بن الحارث وأبي جهل وقرنائهم .
و ( آيات الله ) أي القرآن فإنها المتلوة .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخرا عن سماع الآيات .
والإصرار : ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه وحذف متعلق ( يصر ) لدلالة المقام عليه أي يصرون على كفرهم كما دل على ذلك قوله ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) .
وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث أن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها .
و ( كأن ) أصلها ( كأن ) المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن . وفرع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الأخبار بما يسر على طريقة التهكم .
والمراد بالعلم في قوله ( وإذا علم من آياتنا شيئا ) السمع أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هزؤا أي لا يتلقى شيئا من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به ففعل ( علم ) هنا متعد إلى واحد لأنه بمعنى عرف .
وضمير التأنيث في ( اتخذها ) عائد إلى ( آياتنا ) أي اتخذ الآيات هزؤا لأنه يستهزئ بما علمه منها وبغيره فهو إذا علم شيئا منها استهزئ بما علمه وبغيره