والمعنى : أن المؤمنين والذين يوقنون أي يعلمون ولا يكابرون والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان مترددا وازداد إيمانا من كان مؤمنا فصار موقنا . فالمعنى : أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتلاء بعضها لبعض .
وقدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب وجعل اختلاف الليل والنهار واختلاف حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل .
A E وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) استفهاما إنكاريا بمعنى النفي .
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجها إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء وكان مقصودا منه ابتداء إثبات الوحدانية فهو أيضا صالح لإقامة الحجة على المعطلين الذين ينفون وجود الصانع المختار " وفي العرب فريق منهم .
فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يعدمها .
وقرأ الجمهور قوله ( آيات لقوم يوقنون ) وقوله ( آيات لقوم يعقلون ) برفع ( آيات ) فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران . وتقدر " في " محذوفة في قوله ( واختلاف الليل والنهار ) لدلالة أختها عليها التي في قوله ( وفي خلقكم ) .
والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد .
وقرأها حمزة والكسائي وخلف ( آيات ) في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف ( آيات ) الأول عطف على اسم ( إن ) و ( في خلقكم ) عطف على خبر ( إن ) فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما ( آيات لقوم يعقلون ) فكذلك إلا انه عطف على معمولي عاملين مختلفين أي ليسا مترادفين هما ( إن ) و ( في ) على اعتبار أن الواو عاطفة ( آيات ) وليست عاطفة جملة ( في خلقكم ) الآية وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند اكثر نحاة البصرة ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير ( في ) عند قوله ( واختلاف الليل والنهار ) لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة ( آيات ) على اسم ( إن ) فلا يكون من العطف على معمولي عاملين .
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل . وجعل ابن الحاجب في أماليه قراءة الجمهور برفع ( آيات ) في الموضعين أيضا من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عامل كما أن النصب يحتاج إلى عامل قال : وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيا وهما سواء . وقرأ يعقوب ( آيات ) الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح والسحاب .
( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون [ 6 ] ) يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله ( لآيات للمؤمنين ) وقوله ( آيات لقوم يؤمنون ) وقوله ( آيات لقوم يعقلون ) .
وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين .
وجملة ( نتلوها عليك بالحق ) في موضع الحال من ( آيات الله ) . والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى ( وهذا بعلي شيخا ) .
والتلاوة : القراءة . ومعنى كون الآيات متلوة أن في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل ( نتلو ) مجاز عقلي لأن المتلو ما يدل عليها .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دل عليه قوله ( الكتاب ) أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن فيكون استعمال فعل ( نتلوها ) في حقيقته .
وإسناد التلاوة إلى الله مجاز عقلي أيضا لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات