والغرض الثاني : أن يدعى أن كون القرآن تنزيلا أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزلا من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلا وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون ما صدقيهما على طريقة قوله : ( لا ريب فيه ) .
A E وإيثار وصفي ( العزيز الحكيم ) بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف ( العزيز ) بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله ( وإنه لكتاب عزيز ) أي هو غالب لمعانديه وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته ولإشعار وصف ( الحكيم ) بأن ما نزل من عنده مناسب لحكمته فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه من جانب بلاغته إذ غلبت بلاغة بلغائهم ومن جانب معانيه إذ أعجزت حكمته حكمة الحكماء وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر .
( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين [ 3 ] وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون [ 4 ] واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الريح آيات لقوم يعقلون [ 5 ] ) موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن ومما يؤيد ذلك قوله تعالى ( تلك آيات الله نتلوها عليك ) .
وأكد ب ( إن ) وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) في سورة الزخرف .
والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال ( لآيات للمؤمنين ) وقال ( لآيات لقوم يوقنون ) دون أن يقال : لآيات لكم أو آيات لكم أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين . ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك .
والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له .
وعطف جملة ( وفي خلقكم ) الخ على جملة ( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه .
والبث : التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبث من دابة . وتقدم البث في قوله تعالى ( وبث فيها من كل دابة ) في سورة البقرة .
وعبر بالمضارع في ( يبث ) ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها .
والدابة تطلق على كل ما يدب على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) .
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات . والرزق : القوت . وقد ذكر في آية سورة البقرة ( وما أنزل الله من السماء من ماء ) .
وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدة .
والمراد ب ( المؤمنين وبقوم يوقنون وبقوم يعقلون ) واحد وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون أي يعلمون دلالة الآيات