والاستدراك ناشئ على ما تضمنته جملة ( ما كنت تدري ما الكتاب ) لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن اتنفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه بالكتاب وهدى به أمته فالاستدراك واقع في المحز . والتقدير : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهديت به الناس ثانيا فاهتدى به من شئنا هدايته أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء كقوله تعالى ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) .
وشبه الكتاب بالنور لمناسبة الهدي به لأن الإيمان والهدى والعلم تشبه بالنور والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة قال تعالى ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) . وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ظل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق فالنور وسيلة الاهتداء ولكن إنما يهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى ( نهدي به من نشاء من عبادنا ) أي نخلق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهدى من عبادنا .
فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب .
( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 52 ] صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) أي نهدي به من نشاء بدعوتك وواسطتك فلما أثبت الهدي إلى الله وجعل الكتاب سببا لتحصيل الهداية عطف وساطة الرسول في إيصال ذلك الهدي تنويها بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم .
فجملة ( وإنك لتهدي ) عطف على جملة ( نهدي به من نشاء من عبادنا ) . وفي الكلام تعريض بالمشركين إذ لم يهتدوا به وإذ كبر عليهم ما يدعوهم إليه مع أنه يهديهم إلى صراط مستقيم .
والهداية في قوله ( وإنك لتهدي ) هداية عامة . وهي : إرشاد الناس إلى طريق الخير فهي تخالف الهداية في قوله ( نهدي به من نشاء ) .
وحذف مفعول ( لتهدي ) للعموم أي لتهدي جميع الناس أي ترشدهم إلى صراط مستقيم وهذا كقوله ( وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة ) .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) للاهتمام به لأن الخبر مستعمل في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بهذا المقام العظيم فالخبر مستعمل في لازم معناه على أنه مستعمل أيضا للتعريض بالمنكرين لهديه فيكون في التأكيد ملاحظة تحقيقه وإبطال إنكارهم .
فكما أن الخبر مستعمل في لازمين من لوازم معناه فكذلك التأكيد ب ( إن ) مستعمل في غرضين من أغراضه وكلا الأمرين مما ألحق باستعمال المشترك في معنييه .
وتنكير ( صراط ) للتعظيم مثل تنكير " عظم " في قول أبي خراش : .
فلا وأبي الطير المربة في الضحى ... على خالد لقد وقعن على عظم ولأن التنكير أنسب بمقام التعريض بالذين لم يأبهوا بهدايته .
وعدل عن إضافة ( صراط ) إلى اسم الجلالة ابتداء لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل بأن يبدل منه بعد ذلك ( صراط الله ) ليتمكن بهذا الأسلوب المعنى المقصود فضل تمكن على نحو قوله ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) .
وإجراء وصف اسم الجلالة باسم الموصول وصلته للإيماء إن سبب استقامة الصراط الذي يهدي إليه النبي بأنه صراط الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض فلا يعزب عنه شيء مما يليق بعباده فلما أرسل إليهم رسولا بكتاب لا يرتاب في أن ما أرسل لهم فيه صلاحهم .
( ألا إلى الله تصير الأمور [ 53 ] ) تذييل وتنهية للسورة بختام ما احتوت عليه من المجادلة والاحتجاج بكلام قاطع جامع منذر بوعيد للمعرضين فاجع ومبشر بالوعد لكل خاشع .
وافتتحت الجملة بحرف التنبيه لاسترعاء أسماع الناس .
وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص أي إلى الله لا إلى غيره .
والمصير : الرجوع والانتهاء واستعير هنا لظهور الحقائق كما هي يوم القيامة فيذهب تلبيس الملبسين ويهن جبروت المتجبرين ويقر بالحق من كان فيه من المعاندين وهذا كقوله تعالى ( وإلى الله عاقبة الأمور ) وقوله ( وإليه يرجع الأمر كله ) . والأمور : الشؤون والأحوال والحقائق وكل موجود من الذوات والمعاني .
وقد أخذ هذا المعنى الكميت في قوله : .
" فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى مصائر وفي تنهية السورة بهذه الآية محسن حسن الختام .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة الزخرف .
A E