والروح : ما به حياة الإنسان وقد تقدم عند قوله تعالى ( ويسألونك عن الروح ) في سورة الإسراء . وأطلق الروح هنا مجازا على الشريعة التي بها اهتداء النفوس إلى ما يعود عليهم بالخير في حياتهم الأولى وحياتهم الثانية شبهت هداية عقولهم بعد الضلالة بحلول الروح في الجسد فيصير حيا بعد أن كان جثة .
ومعنى ( من أمرنا ) مما استأثرنا بخلقه وحجبناه عن الناس فالأمر المضاف إلى الله بمعنى الشأن العظيم كقولهم : أمر أمر فلان أي شأنه وقوله تعالى ( بإذن ربهم من كل أمر ) .
والمراد بالروح من أمر الله : ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الإرشاد والهداية سواء كان بتلقين كلام معين مأمور بإبلاغه إلى الناس بلفظه دون تغير وهو الوحي القرآني المقصود منه أمران : الهداية والإعجاز أم كان غير مقيد بذلك بل الرسول مأمور بتبليغ المعنى دون اللفظ وهو ما يكون بكلام غير مقصود به الإعجاز أو بإلقاء المعنى إلى الرسول بمشافهة الملك وللرسول في هذا أن يتصرف من ألفاظ ما أوحي إليه بما يريد التعبير به أو برؤيا المنام أو بالإلقاء في النفس كما تقدم .
واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله ( كذلك يوحي إليك ) الآية فيه محسن رد العجز على الصدر .
وجملة ( ما كنت تدري ما الكتاب ) في موضع الحال من ضمير ( أوحينا ) أي أوحينا إليك في حال انتفاء علمك بالكتاب والإيمان اي أفضنا عليك موهبة الوحي في حال خلوك عن علم الكتاب وعلم الإيمان . وهذا تحد للمعاندين ليتأملوا في حال الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والآداب الخلقية هو من مواهب الله تعالى التي لم تسبق له مزاولتها ويتضمن امتنانا عليه وعلى أمته المسلمين .
ومعنى عدم دراية الكتاب : عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه .
ومعنى انتفاء دراية الإيمان : عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى ( ويزداد الذين أمنوا إيمانا ) فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الاسلام . فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال ( ما كنت تدري ) ولم يقل : ما كنت مؤمنا .
وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمنا بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه إذ الأنبياء والرسل معصومون من الشرك قبل النبوءة فهم موحدون لله ونابذون لعبادة الأصنام ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان وكان نبينا صلى الله عليه وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة .
وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في دلائل النبوءة عن شداد بن أوس وذكره عياض في الشفاء غير معزو : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نشأت " أي عقلت " بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أعد " .
وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم .
وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا قبل نبوءته بشرع .
وإدخال ( لا ) النافية في قوله ( ولا الإيمان ) تأكيد لنفي درايته إياه أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحد منهما .
وقوله ( ولكن جعلناه نورا ) عطف على جملة ( ما كنت تدري ما الكتاب ) . وضمير ( جعلناه ) عائد إلى الكتاب في قوله ( ما كنت تدري ما الكتاب ) . والتقدير : وجعلنا الكتاب نورا . وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة ( ما كنت تدري ما الكتاب ) .
A E