وخلاصة معنى الآية أن الله قد يخلق في نفس جبريل أو غيره من الملائكة علما بمراد الله على كيفية لا نعلمها وعلما بأن الله سخره إبلاغ مراده إلى النبي والملك يبلغ إلى النبي ما أمر بتبليغه للآمر التسخيري بألفاظ معينة ألقاها الله في نفس الملك مثل ألفاظ القرآن أو بألفاظ من صنعة الملك كالتي حكى الله عن زكريا بقوله ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ) .
أو يخلق في سمع النبي كلاما يعلم علم اليقين أنه غير صادر إليه من متكلم فيوقن أنه من عند الله بدلالة المعجزة أول مرة وبدلالة تعوده بعد ذلك . وهذا مثل الكلام الذي كلم الله به موسى ألا ترى إلى قوله تعالى ( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك ) الآية فقرن خطابه الخارق للعادة بالمعجزة الخارقة للعادة ليوقن موسى أن ذلك كلام من عند الله .
أو يخلق في نفس النبي علما قطعيا بأن الله أراد منه كذا كما يخلق في نفس الملك في الحالة المذكورة أولا .
فعلى هذه الكيفيات يأتي الوحي للأنبياء ويختص القرآن بمزية أن الله تعالى يخلق كلاما يعيه الملك ويؤمر بإبلاغه بنصه دون تغيير إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
والقول في موقع جملة ( إنه علي حكيم ) كالقول في جملة ( إنه عليم قدير ) السابقة وإنما أؤثر هنا صفة ( العلي الحكيم ) لمناسبتهما للغرض لأن العلو في صفة ( العلي ) علو عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تحظ من جانب القدس بالتصفية فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة فاقتضى علوه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض لأن ذلك كما يقول الحكماء : استفادة القابل من المبدإ تتوقف عن المناسبة بينهما .
وأما وصف ( الحكيم ) فلأن معناه المتقن للصنع العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلا لحكمة إصلاحهم ونظام عالمهم وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقي خطابه ووعيه دون اختلال فيه ولا خروج عن طاقة المتلقين .
وانظر ما تقدم عند قوله تعالى ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) في سورة الأعراف وعند قوله ( فأجره حتى يسمع كلام الله ) في سورة براءة .
( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) عطف على جملة ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) الآية وهذا دليل عليهم أن القرآن أنزل من عند الله أعقب به إبطال شبهتهم التي تقدم لإبطالها قوله ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) الآية أي كان وحينا إليك مثل كلامنا الذي كلمنا به من قبلك على ما صرح به في قوله تعالى ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) . والمقصود من هذا هو قوله ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) .
والإشارة إلى سابق في الكلام وهو المذكور آنفا في قوله ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) الآية أي ومثل الذي ذكر من تكليم الله وحينا إليك روحا من أمرنا فيكون على حد قول الحارث بن حلزة : .
مثلها تخرج النصيحة للقوم ... فلاة من دونها أفلاء أي مثل نصيحتنا التي نصحناها للملك عمرو بن هند تكون نصيحة الأقوام بعضهم لبعض لأنها نصيحة قرابة ذوي أرحام .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما يأتي من بعد وهو الإيحاء المأخوذ من ( أوحينا إليك ) أي مثل إيحائنا إليك أوحينا إليك أي لو أريد تشبيه إيحائنا إليك في رفعة القدر والهدى ما وجد له شبيه إلا نفسه على طريقة قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) كما تقدم في سورة البقرة . والمعنى : إن ما أوحينا إليك هو أعز وأشرف وحي بحيث لا يماثله غيره .
وكلا المعنيين صالح هنا فينبغي أن يكون كلاهما محملا للآية على نحو ما ابتكرناه في المقدمة التاسعة من هذا التفسير . ويؤخذ من هذه الآية أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أعطي أنواع الوحي الثلاثة وهو أيضا مقتضى الغرض من مساق هذه الآيات .
A E