والأحسن أن يكون تقديره بما يدل عليه جملة الحال من جلالة الذكر ونفاسته فيكون التقدير : خسروا الدنيا والآخرة أو استفهموا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل وحذف خبر ( إن ) إذا دل عليه دليل وارد في الكلام . وأجازه سيبويه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الحرف الخمسة وتبعه الجمهور وخالفه الفراء فشرطه بتكرر ( إن ) . ومن الحذف قوله تعالى ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) الآية في سورة الحج وأنشد سيبويه : .
" يا ليت أيام الصبا رواجعا إذ روي بنصب " رواجعا " على الحال فلم يذكر خبر " ليت " وذكر أن العرب بقولون ( إن مالا وإن ولدا ) أي إن لهم وقول الأعشى : .
" إن محلا وإن مرتحلا أي أن لنا في الدنيا حلولا ولنا عنها مرتحلا إذ ليس بقية البيت وهو قوله : .
" وإن في السفر إذ مضوا مهلا . ما يصح وقوعه خبرا عن ( إن ) الأولى . وقال جميل : .
وقالوا نراها يا جميل تنكرت ... وغيرها الواشي فقلت لعلها وقال الجاحظ في البيان في باب من الكلام المحذوف : عن الحسن أن المهاجرين قالوا ( يا رسول الله إن الأنصار آوونا ونصرونا قال النبي A : تعرفون ذلك لهم قالوا : نعم قال فإن ذلك " ليس في الحديث غير هذا " يريد فإن ذلك شكر ومكافأة اه . وفي المقامة الثالثة والأربعين " حسبك يا شيخ فقد عرفت فنك واستبنت أنك " أي أنك أبو زيد . وقد مثل في شرح التسهيل لحذف خبر ( إن ) بهذه الآية .
وجملة ( وإنه لكتاب ) الخ في موضع الحال من الذكر أي كفروا به في حاله هذا ويجوز أن تكون الجملة عطفا على جملة ( إن الذين كفروا بالذكر ) على تقدير خبر ( إن ) المحذوف .
وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم : الوصف الأول : نه ذكر أي يذكر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم .
الوصف الثاني من معنى الذكر : إنه ذكر للعرب وسمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى ( وإنه لذكر لك ولقومك ) وفي قوله ( لما جاءهم ) إشارة إلى هذا المعنى الثاني .
الوصف الثالث : أنه كتاب عزيز والعزيز النفيس وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفيس يدافع عنه ويحمى عن النبذ فإنه بين الإتقان وعلو المعاني ووضوح الحجة ومثل ذلك يكون عزيزا والعزيز أيضا : الذي يغلب ولا يغلب وكذلك حجج القرآن .
الوصف الرابع : أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحه ولا ضمنيه أي لا يشتمل على الباطل بحال . فمثل ذلك ب ( من بين يديه ومن خلفه ) . والمقصود استيعاب الجهات تمثيلا لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صده خاتله فأتاه من خلفه وقد تقدم في قوله تعالى ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ) .
فمعنى ( لا يأتيه الباطل ) لا يوجد فيه ولا يداخله وليس المراد أنه لا يدعى عليه الباطل .
الوصف الخامس : أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقة لأنه تنزيل من حكيم ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) فإن كلام الحكيم يأتي محكما متقنا رصينا لا يشوبه الباطل .
A E الوصف السادس : أنه تنزيل من حميد والحميد هو المحمود حمدا كثيرا أي مستحق الحمد الكثير فالكلام المنزل منه يستحق الحمد وإنما يحمد الكلام إذ يكون دليلا للخيرات وسائقا إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه فيحمده سامعه كثيرا لأنه يجده مجبلة للخير الكثير ويحمد قائله لا محالة خلافا للمشركين . ب وفي إجراء هذه الوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه فقال ( وإنه لكتاب عزيز ) الآيات .
( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك )