وكني بقوله ( يأتي آمنا ) أن ذلك الفريق مصيره الجنة إذ لا غاية للآمن إلا أنه في نعيم . وهذه كناية تعريضية بالذين يلحدون في آيات الله .
وفي الآية محسن الاحتباك إذ حذف مقابل ( من يلقى في النار ) وهو : من يدخل الجنة وحذف مقابل ( من يأتي آمنا ) وهو : من يأتي خائفا وهم أهل النار .
( اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ 40 ] ) الجملة تذييل لجملة ( إن الذين يلحدون في آياتنا ) الخ كما دل عليه قوله عقبه ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ) الآية أي لا يخفى علينا إلحادهم ولا غيره من سيئ أعمالهم . وإنما خص الإلحاد بالذكر ابتداء لأنه أشنع أعمالهم ومصدر أسوئها .
والأمر في قوله ( إنه بما تعملون بصير ) وعيد بالعقاب على أعمالهم على وجه الكناية .
وتوكيده ب ( إن ) لتحقيق معنييه الكنائي والصريح وهو تحقيق إحاطة علم الله بأعمالهم لأنهم كانوا شاكين في ذلك كما تقدم في قصة الثلاثة الذين نزل فيهم قوله تعالى ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ) الآية .
ولبصير : العليم بالمبصرات .
( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز [ 41 ] لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 42 ] ) أعقب تهديدهم على الإلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعرضة لأن يكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه فلهذه الجملة اتصال في المعنى بجملة ( إن الذين يلحدون في آياتنا ) واتصال في الموقع بجملة ( اعملوا ما شئتم ) .
وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي موقع أجزائها من تصريح وتقدير .
فجعل صاحب الكشاف قوله ( إن الذين كفروا بالذكر ) بدلا من قوله ( إن الذين يلحدون في آياتنا ) وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلا مطابقا أو بدل اشتمال وأنه بتكرير العامل وهو حرف ( إن ) وأن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهور إلا في حرف الجر كما قال الرضي فكلام الزمخشري في المفصل يقتضي الإطلاق وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر .
وعلى هذا لقول لا يقدر خبر لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله ( لا يخفون علينا ) .
وعن أبي عمرو بن العلاء والكسائي وعمرو بن عبيد ما يقتضي إنهم يجعلون جملة ( إن الذين كفروا بالذكر ) جملة مستقلة لأنهم جعلوا ل ( إن ) خبرا . فأما أبو عمرو فقال : خبر ( إن ) قوله ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) .
حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس أبي عمرو بن العلاء عن خبر ( إن ) فقال : لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو : إنه منك لقريب ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) . وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم ( إن ) وخبرها جملا معترضة وهي نحو سبع . وأما الكسائي وعمرو بن عبيد فقدروا خبرا لاسم ( إن ) فقال الكسائي : الخبر محذوف دل عليه قوله قبله ( أفمن يلقى في النار خير ) فنقدر الخبر : يلقون في النار مثلا . وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن الخبر فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان . ويجئ على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلا من جملة ( إن الذين يلحدون في آياتنا ) بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله ( في آياتنا ) مطلق الآيات أو بدلا مطابقا إن أريد بالآيات آيات القرآن .
A E وقيل الخبر قوله ( ما يقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك ) أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم للرسل من قبلك وما بينهما اعتراض .
والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم : سحر وشعر وقول كاهن وقول جنون ولو نشاء لقلنا مثل هذا وأساطير الأولين وقلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر .
والأظهر أن تكون جملة ( إن الذين كفروا بالذكر ) الخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله ( لا يخفون علينا ) . والمعنى : لأنهم ما أوصي إلى الرسل ن قوله .
وموقع ( إن ) موقع فاء التعليل . وخبر ( إن ) محذوف دل عليه سياق الكلام