فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض وهو الذي عنه بعطف القصة على القصة وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها ( ادفع بالتي هي أحسن ) الآية .
وقد علمت غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالبا تفضيل أحدهما على مقابلة بحسب دلالة السياق كقوله تعالى ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) . وقول الأعشى : .
ما يجعل الجد الضنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطر .
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة دون إعادة ( لا ) النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير ) فإعادة ( لا ) النافية تأكيد لأختها السابقة . وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام تقديره : وما تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة . فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوي السيئة والمراد الثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة . وذلك هو الاستواء في الخصائص وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين : جنس الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجاز وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر .
وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الخلاق في قوله ( ادفع بالتي هي أحسن ) فيشبه أن يكون إيثار نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئة للانتقال إلى قوله ( ادفع بالتي هي أحسن ) .
وقوله ( ادفع بالتي هي أحسن ) يجري موقعه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) .
فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبة أن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشاد من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى .
وهي على الوجه الثاني من وجهي موقع جملة ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصد من المقدمة فمضمونها ناشئ عن مضمون التي قبلها .
وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة ( ادفع بالتي هي أحسن ) مفصولة غير معطوفة .
وإنما أمر الرسول A بذلك لأن منتهى الكمال البشري خلقه كما قال ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقالت عائشة لما سئلت عن خلقه ( كان خلقه القرآن ) لأنه أفضل الحكماء .
والإحسان كما ذاتي ولكنه قد يكون تركه محمودا في الحدود ونحوها فذلك معنى خاص . والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم ولذلك قالت عائشة ( ما انتقم رسول الله A لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله فيغضب لله ) . وتخلق الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) .
وروى عياض في الشفاء " وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابن جرير في تفسيره " لما نزل قوله تعالى ( خذ العفو ) سأل النبي A جبريل عن تأويلها فقال له : حتى أسأل العلم فأتاه فقال : " يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك " .
A E ومفعول ( ادفع ) محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعا به تعين أن المدفوع هو السيئة فالتقدير : ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) في سورة الرعد وقوله ( ادفع بالتي هي أحسن السيئة ) في سورة المؤمنين و ( التي هي أحسن ) هي الحسنة وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيبا في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أمر الرسول A بأن يجازي السيئة بالتي هي بالحسنة أشير إلى فضل ذلك . وقد ورد في صفة رسول الله A " ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح " . وقد قيل : إن ذلك وصفه في التوراة