وقوله ( من دعا إلى الله ) ( من ) فيه تفضيلية لاسم ( أحسن ) والكلام على حذف مضاف تقديره : من قول من دعا إلى الله . وهذا الحذف كالذي في قول النابغة : .
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل ومنه قوله تعالى ( ولكن البر من آمن بالله ) الآية في سورة البقرة .
والعمل الصالح : هو العمل الذي يصلح عامله في دينه ودنياه صلاحا لا يشوبه فساد وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين فالعمل الصالح : هو ما وصف به المؤمنون آنفا في قوله ( ثم استقاموا ) .
وأما ( وقال إنني من المسلمين ) فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام .
والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين . ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صاح أبو سفيان : اعل هبل فقال النبي A قولوا ( الله أعلى وأجل ) فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي A " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " .
وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي ( الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإسلام وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا .
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خلقه .
وفيها أيضا منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن سحنون : أن المسلم يقول : أنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله خلافا لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عبدوس فنقل أنه كان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن . والحق أنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في المدارك ووافقه . وذكرنا لمسألة مفصلة عند قوله تعالى ( وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أ يشاء الله ربنا ) في سورة العراف وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة العراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون .
والقول في قوله ( وقال إنني من المسمين ) كالقول في ( إن الذين قالوا ربنا الله ) .
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 34 ] ) عطف هذه الجملة له موقع عجيب فإنه يجوز أن يكون عطفا على جملة ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمهم وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمح الصفة مقارن له فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ) فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض .
A E ويجوز أن تكون عطفا على جملة ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) الواقعة بعد جملة ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) إلى قوله ( فاعمل إننا عاملون ) فإن ذلك مثير في نفس النبي A الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي A إلى الحق فهو بحل من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) الآية .
فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأولاها تبادرا إلى الأذهان حسنة الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جم المنافع في الآخرة والدنيا وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقى به المشركون دعوة الإسلام لأن الصفح من الإحسان وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة