بعد استيفاء الكلام على متا أصاب الأمم الماضية المشركين المكذبين من عذاب الدنيا وما أعد لهم من عذاب الآخرة مما فيه عبرة للمشركين الذين كذبوا محمدا A بطريق التعريض ثم أنذروا بالتصليح بما سيحل بهم في الآخرة ووصف بعض أهواله تشوف السامع إلى معرفة حظ المؤمنين ووصف حالهم فجاء قوله ( إن الذين قالوا ربنا الله ) الخ بيانا للمترقب وبشرى للمتطلب فالجملة استئناف بياني ناشئ عما تقدم من قوله ( ويم نحشر أعداء الله إلى النار ) إلى قوله ( من الأسفلين ) .
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد منظور فيه إلى إنكار المشركين ذلك ففي توكيد الخبر زيادة قمع لهم .
ومعنى ( قالوا ربنا الله ) أنهم صدعوا بذلك ولم يخشوا أحدا بإعلانهم التوحيد فقولهم تصريح بما في اعتقادهم لأن المراد بهم قالوا ذلك عن اعتقاد فإن الأصل في الكلام الصدق وهو مطابقة الخبر وما في الوجود الخارجي .
وقوله ( ربنا الله ) يفيد الحصر بتعريف المسند إليه والمسند أي لا رب لنا إلا الله وذلك جامع لأصل الاعتقاد الحق لأن الإقرار بالتوحيد يزيل المانع من تصديق الرسول A فيما جاء به إذ لم يصد المشركين عن الإيمان بما جاء به النبي A إلا أنه أمرهم بنبذ عبادة غير الله ولأن التكذيب بالبعث تلقوه من دعاة الشرك .
والاستقامة حقيقتها : عدم الاعوجاج والميل والسين والتاء فيها للمبالغة في التقويم فحقيقة استقام : استقل غير مائل ولا منحن . وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالى ( فاستقيموا إليه واستغفروه ) وقال ( فاستقم كما أمرت ) ويقال : استقامت البلاد للملك أي أطاعت ومنه قوله تعالى ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) .
ف ( استقاموا ) هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه .
ومن معنى هذه الآية ما روي في صحيح مسلم عن سفيان الثقفي قال " قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك . قال : قل آمنت بالله ثم استقيم " .
وعن أبي بكر ( ثم استقاموا ) : لم يشركوا بالله شيئا . وعن عمر : استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعالب . وقال عثمان : ثم أخلصوا العمل لله . وعن علي ثم أدوا الفرائض . فقد تولى تفسير هذه الآية الخلفاء الربعة رضي لله عنهم . وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة في الإيمان وآثاره وعناية هؤلاء الأربعة أقطاب الإسلام ببيان الاستقامة مشير إلى أهميتها في الدين .
وتعريب المسند إليه بالموصولية دون أن يقال : إن المؤمنين ونحوه لما في الصلة من الإيمان إلى أنها سبب ثبوت المسند للمسند إليه فيفيد أن تنزل الملائكة عليهم بتلك الكرامة مسبب على قولهم ( ربنا الله ) واستقامتهم فإن الاعتقاد الحق والإقبال على العمل الصالح هما سبب الفوز .
و ( ثم ) التراخي الرتبي لأن الاستقامة زائدة في المرتبة على الإقرار بالتوحيد لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه والعمل بما يستدعيه ولأن الاستقامة دليل على أن قولهم ( ربنا الله ) كان قولا منبعثا عن اعتقاد الضمير والمعرفة الحقيقة .
وجمع قوله ( قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) أصلي الكمال الإسلامي فقوله ( قالوا ربنا الله ) مشير إلى الكمال النفساني وهو معرفة الحق للاهتداء به ومعرفة الخير لأجل العمل به فالكمال علم يقيني وعمل صالح فمعرفة الله بالإلهية هي أساس العلم اليقيني .
A E وأشار قوله ( استقاموا ) إلى أساس الأعمال الصالحة وهو الاستقامة على الحق أي أن يكون وسطا غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط قال تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم ) وقال ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) على أن كمال الاعتقاد راجع إلى الاستقامة فالاعتقاد الحق أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل ولا يتوغل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه والتمثيل بل يمشي على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل ويستمر كذلك فاصلا بين الجبري والقدري وبين الرجاء والقنوط وفي الأعمال بين الغلو والتفريط