وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكموا أفواه الناطقين بالحق والجة بما يستطيعون من تخويف وتسويل وترهيب وترغيب ولا يدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهض فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل فإذا أعيتهم الحيل ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعم نورها الناس الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو وكذلك شأن هؤلاء .
فقولهم ( لا تسمعوا لهذا القرآن ) تحذيرا واستهزاء بالقرآن فاسم الإشارة مستعمل في التحقير كما فيما حكي عنهم ( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) .
وتسميتهم إياه بالقرآن حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسمية بذلك .
وتعدية فعل ( تسمعوا ) باللام لتضمينه معنى : تطمئنوا أو تركنوا .
واللغو : القول الذي لا فائدة فيه ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغوا وهو واوي اللام فأصل ( والغوا ) : والغووا استثقلت الضمة على الواو فحذفت والتقى ساكنان فحذف أولهما وسكنت الواو الثانية سكونا حيا والواو علامة الجمع . وهذا الجاري على ظاهر كلام الصحاح والقاموس وفي الكشاف أنه يقال : لغي يلغى كما يقال : لغا يلغو فهو إذن واوي ويائي .
فمعنى ( والغوا فيه ) قولوا أقوالا لا معنى لها أو تكلموا كلاما غير مراد منه إفادة أو المقصود إحداث أصوات تغمر صوت النبي A بالقرآن . ولما كان المقصود بتخلل أصواتهم صوت القارئ حتى لا يفقهه السامعون عدي اللغو بحرف ( في ) الظرفية لإفادة إيقاع لغوهم في خلال صوت القارئ وقوع المظروف في الظرف على وجه المجاز .
وأدخل حرف الظرفية على اسم القرآن دون اسم شيء من أحواله مثل صوت أو كلام ليشمل كل ما يخفى ألفاظ القرآن أو يشكك في معانيها أو نحو ذلك . وهذا نظم له مكانة من البلاغة .
قال ابن عباس " كان النبي A وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لهم : لا تسمعوا له والغوا فيه فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال لما استمعوا إلى قراءة أبي بكر وكان رقيق القراءة : إنا نخاف أن يفتن أبناءنا ونساءنا " .
ومعنى ( لعلكم تغلبون ) رجاء أن تغلبوا محمدا بصرف من يتوقع أن يتبعه إذا سمع قراءته . وهذا مشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبهم إذ كان الذين يسمعونه يداخل قلوبهم فيؤمنون أي فإن لم تفعلوا فهو غالبكم .
( فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون [ 27 ] ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون [ 28 ] ) دلت الفاء على أن ما بعدها مفرع عما قبلها : فإما أن يكون تفريغا على آخر ما تقدم وهو قوله ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن ) الآية وإما أن يكون مفرعا على جميع ما تقدم ابتداء من قوله ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) الآية وقوله ( فإن أعرضوا ) الآية وقوله ( ويوم نحشر أعداء الله إلى النار ) الآية وقوله ( وقيضنا لهم قرناء ) الآية وقوله ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا ) الخ . وعلى كلا الوجهين يتعين أن يكون المراد ب ( الذين كفروا ) هنا : المشركين الذين الكلام عنهم .
ف ( الذين كفروا ) إظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الموصول من الإيماء إلى عل إذاقة العذاب أي لكفرهم المحكي بعضه فيما تقدم .
A E وإذاقة العذاب : تعذيبهم استعير له الإذاقة على طريق المكنية والتخييلة . والعذاب الشديد عن ابن عباس : أنه عذاب يوم بدر فهو عذاب الدنيا .
وعطف ( ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ) عن ابن عباس : لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة .
و ( أسوأ الذي كانوا يعملون ) منصوب على نزع الخافض . والتقدير : على أسوأ ما كانوا يعملون ولك أن تجعله منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق تقديره : جراء مماثلا أسوأ الذي كانوا يعملون