ومعنى تقييضهم لهم : تقديرهم لهم أي خلق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاة والقابلين كما يقول الحكماء " استفادة القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما " . فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحاب بين الجماعات ولمختلف الطبائع المكونة في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبية الشياطين إليها وحدوث الخواطر السيئة فيها . والإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا ب ( قيضنا ) دون غيره من نحوه : بعثنا وأرسلنا .
والتزيين : التحسين وهو يشعر بأن المزين غير حسن في ذاته . و ( ما بين أيديهم ) يستعار للأمور المشاهدة وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة .
والمراد ب ( ما بين أيديهم ) أمور الدنيا أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام وقتل النفس بلا حق وأكل الأموال والعدول على الناس باليد واللسان والميسر وارتكاب الفواحش والوأد . فعودوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة .
والمراد ب ( ما خلفهم ) الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل لشرك بالله ونسبة الولد إليه وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم وإحالتهم بعثة الرسل وإحالتهم البعث والجزاء .
ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم ( أإذا كنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون ) .
و ( حق عليهم ) أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر فالتعريف في ( القول ) للعهد . وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يعهد منه هذا القول مثل قوله ( أفمن حق عليه كلمة العذاب ) وقوله ( فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ) فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية .
وقوله ( في أمم ) حال من ضمير ( عليهم ) أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم .
والظرفية هنا مجازية وهي بمعنى التبعيض أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول . ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أذينة : .
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو ... كا ففي آخرين قد أفكوا أي فأنت من جملة آخرين قد صرفوا عن أحسن الصنيعة .
و ( من ) في قوله ( من الجن والإنس ) بيانية فيجوز أن يكون بيانا ل ( أمم ) أي من أمم من البسر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى ( قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) وقوله ( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) ويجوز أن يكون بيانا ل ( قرناء ) أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أئمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله .
وجملة ( إنهم كانوا خاسرين ) يجوز أن تكون بيانا للقول مثل نظيرتها ( فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ) في سورة الصافات ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة ( وحق عليهم القول في أمم ) والمعنيان متقاربان .
( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ 26 ] ) عطف على الجملة . ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) عطف القصة على القصة ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإنس أو هو عطف على جملة ( فزينوا لهم ) .
A E وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أساليب الإعراض فالذين كفروا هنا هم أئمة الكفر يقولون لعامتهم : لا تسمعوا لهذا القرآن فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام شريف معان وبلاغة تراكيب وفصاحة ألفاظ وأيقنوا أن كل من يسمعه وتداخل نفسه جزالة ألفاظه وسمو أغراضه قضى له فهمه أنه حق إتباعه وقد أدركوا ذلك بأنفسهم ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالؤوا ودبروا تدبير لمنع الناس من استماعه وذلك خشية من أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه