الفائدة التاسعة : معرفة أن قوة الله تعالى فوق كل قوة وأن الله ينصر من ينصره وأنهم إن أخذوا بوسيلتي البقاء : من الاستعداد والاعتماد ؛ سلموا من تسلط غيرهم عليهم . وذكر العواقب الصالحة لأهل الخير وكيف ينصرهم الله تعالى كما في قوله ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) .
الفائدة العاشرة : أنها يحصل منها بالتبع فوائد في تاريخ التشريع والحضارة وذلك يفتق أذهان المسلمين للإلمام بفوائد المدنية كقوله تعالى ( كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ) في قراءة من قرأ دين بكسر الدال أي في شرع فرعون يومئذ فعلمنا أن شريعة القبط كانت تخول استرقاق السارق . وقوله ( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ) يدل على أن شريعتهم ما كانت تسوغ أخذ البدل في الاسترقاق وأن الحر لا يملك إلا بوجه معتبر . ونعلم من قوله ( وابعث في المدائن حاشرين - فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ) أن نظام مصر في زمن موسى إرسال المؤذنين والبريح بالإعلام بالأمور المهمة . ونعلم من قوله ( قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة ) أنهم كانوا يعلمون وجود الأجباب في الطرقات وهي آبار قصيرة يقصدها المسافرون للاستقاء منها . وقول يعقوب ( وأخاف أن يأكله الذئب ) أن بادية الشام إلى مصر كانت توجد بها الذئاب المفترسة وقد انقطعت منها اليوم .
وفيما ذكرنا ما يدفع عنكم هاجسا رأيته خطر لكثير من أهل اليقين والمتشككين وهو أن يقال : لماذا لم يقع الاستغناء بالقصة الواحدة في حصول المقصود منها . وما فائدة تكرار القصة في سور كثيرة ؟ وربما تطرق هذا الهاجس ببعضهم إلى مناهج الإلحاد في القرآن . والذي يكشف لسائر المتحيرين حيرتهم على اختلاف نواياهم وتفاوت مداركهم أن القرآن - كما قلنا هو بالخطب والمواعظ أشبه منه بالتآليف . وفوائد القصص تجتلبها المناسبات وتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى . كما لا يقال للخطيب في قوم ثم دعته المناسبات إلى أن وقف خطيبا في مثل مقامه الأول فخطب بمعان تضمنتها خطبته السابقة إنه أعاد الخطبة بل إنه أعاد معانيها ولم يعد ألفاظ خطبته . وهذا مقام تظهر فيه مقدرة الخطباء فيحصل من ذكرها هذا المقصد الخطابي . ثم تحصل معه مقاصد أخرى : أحدها رسوخها في الأذهان بتكريرها .
الثاني : ظهور البلاغة فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها من مجاز أو استعارات أو كناية . وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل : ولئن رددت . ولئن رجعت . وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة فذلك وجه من وجوه الإعجاز .
الثالث : أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم فإن تلقي القرآن عند نزوله أوقع في النفوس من تطلبه من حافظيه .
الرابع : أن جمع المؤمنين جميع القرآن حفظا كان نادرا بل تجد البعض يحفظ بعض السور فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالما بتلك القصة . كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة .
الخامس : أن تلك القصص تختلف حكاية القصة الواحدة منها بأساليب مختلفة ويذكر في بعض حكاية القصة الواحدة ما لم يذكر في بعضها الآخر وذلك لأسباب : منها تجنب التطويل في الحكاية الواحدة فيقتصر على موضع العبرة منها في موضع وبذكر آخر في موضع آخر فيحصل من متفرق مواضعها في القرآن كمال القصة أو كمال المقصود منها وفي بعضها ما هو شرح لبعض .
A E