والحق : أن أفضلية العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر والأجسام الإنسانية مركبة من العناصر كلها . والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوق بها الإنسان على جميع المراكبات بأن كان فيه جزء ملكي شارك به الملائكة ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملا في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا : إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تحمض النورانية وتميز فريق الأنبياء بأنهم لحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة فليس لإبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأ الأعلى .
وإنما بسطنا القول هنا لرد شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعنا في الدين لا إيمانا بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مقتضيا أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجراء متفاوتة والتركيب قد يدخل على المادة الأولى شرفا وقد يدخل عليها حقارة والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار .
( قال فاخرج منها فإنك رجيم [ 77 ] وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ 78 ] ) عاقبة الله على ما برز من نفسانية فخالف ما كان من طريقته فأطرده من الملأ الأعلى ومن الجنة وضمير ( قال ) عائد إلى الله تعالى على طريقة حكاية المقاولات . وفرع أمره بالخروج من الجنة بالفاء على ما تقدمه من السؤال والجواب لأن جوابه دل على كون خبث في نفسه بدت آثاره في عمله فلم يصلح لمخالطة أهل الملأ الأعلى . وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحجر .
واللعنة : الإبعاد من رحمة الله وأضيفت إلى الله لتشنيع متعلقها وهو الملعون لأن الملعون من جانب الله هو أشنع ملعون .
وجعل ( يوم الدين ) غاية اللعنة للدلالة على دوامها مدة هذه الحياة كلها ليستغرق الأزمنة كلها وليس المراد حصول ضد اللعنة له يوم الدين أعني الرحمة لأن يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال فجزاء الملعون العذاب الأليم كما أنبأ بذلك التعبير ب ( يوم الدين ) دون : يوم يبعثون أو يوم الوقت المعلوم .
( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون [ 79 ] قال فإنك من المنظرين [ 80 ] إلى يوم الوقت المعلوم [ 81 ] ) أي قال إبليس . وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحجر وتفسيرها هناك مستوفي .
( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين [ 82 ] إلا عبادك منهم المخلصين [ 83 ] ) الفاء لتفريغ كلامه على أمر الله إياه بالخروج من الجنة وعقابه إياه باللعنة الدائمة وهذا التفريغ من تركيب كلام متكلم آخر . وهو الملقب بعطف التلقين في قوله تعالى ( قال ومن ذريتي ) في سورة البقر .
أقسم الشيطان بعزة الله تحقيقا لقيامه بالإغواء دون تخلف وإنما أقسم على ذلك وهو يعلم عظمة هذا القسم لأنه وجد في نفسه أن الله أقدره على القيام بالإغواء والوسوسة وقد قال في سورة الحجر ( رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ) .
والعزة : القهر والسلطان وعزة الله هي العزة الكاملة التي لا تختل حقيقتها ولا يتخلف سلطانها وقسم إبليس بها ناشئ عن علمه بأنه لا يستطيع الإغواء إلا لأن الله أقدره ولولا ذلك لم يستطيع نقض قدرة الله تعالى .
وتقدم تفسير نظير ( ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) في سورة الحجر .
( قال فالحق والحق أقول [ 84 ] لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 85 ] ) أي قال الله تعالى تفريغا وهذا التفريع نظير التفريع في قوله ( فبعزتك لأغويتهم أجمعين )