أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذ كان بواسطة ملك من الملائكة لأن إبليس لما أستكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد يعد أهلا لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء الحجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) وبذلك تكون المحاورة المحكية هنا بواسطة ملك فيكون الاختصام بينه وبين الملائكة على جعل ضمير ( يختصمون ) عائدا إلى الملأ الأعلى كما تقدم .
وجيء بفعل ( قال ) غير معطوف حسب طريقة المقاولات . وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الحجر إلا قوله هنا ( ما منعك أن تسجد ) أي ما منعك من السجود ووقع في سورة الأعراف ( أن لا تسجد ) على أن ( لا ) زائدة . وحكي هنا أن الله قال له ( لما خلقت بيدي ) آي خلقا خاصا دفعة ومباشرة لأمر التكوين فكان تعلق هذا التكوين أقرب من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها . ولا شك في آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب . فاليدان تمثيل لتكون آدم من مجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخاري للإناء من طين إذ يسويه بيديه . وكان السلف يقرون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله . أو أن تحمل العقول القاصرة صفات الله على ما تعارفته ( ولتصنع على عيني ) وقال مرة ( فإنك بأعيننا ) . وقد تقدم القول في الآيات المشاهبة في أول سورة آل عمران .
وفي إلقاء هذا السؤال إلى إبليس قطع بمعذرته . والمعنى : أمن أجل أنك تتعاظم بغير حق أم لأنك من أصحاب العلو والمراد بالعلو الشرف أي من العالين على آدم فلا يستحق أن تعظمه فأجاب إبليس مما يشق الثاني . فتبين أنه يعد نفسه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين يعني والنار أفضل من الطين أي في رأيه .
وعبر عن آدم باسم ( ما ) الموصولة وهو حينئذ إنسان لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد خلقه وتعليمه الأسماء كما في سورة البقرة . ويؤيد قول أهل التحقيق أن ( ما ) لا تختص بغير العاقل وشواهد كثيرة في القرآن وغيره من كلام العرب .
وقال ( أنا خير منه ) قول من الشيطان حكي على طريقة المحاورات .
وجملة ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) بيان لجملة ( أنا خير منه ) . وقد جعل إبليس عذره مبنيا على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعي باطلا وعصي ربه استكبارا : وطرده أجمع لإبطال علمه ودحض دليله غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملتهبة التي تسمى نارا وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تعد أن يكون كيانها مخلوطا بما يلهبها . ومعنى كون الشيطان مخلوقا من النار أن ابتداء تكون الذرة الأصلية لقوام ما هيته من عنصر النار ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به .
ومعنى كون آدم مخلوقا من الطين أن ابتداء تكون ذرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ما هية الإنسان .
وتكون ( من ) في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية .
وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ( ويعبر عن بالأرض ) لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون .
وقال الشيرازي في شرح كليات القانون : إن النار وإن ترجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات وغير مفسدة ببردها بخلاف النار فإنها مفسدة بحرها لكونه في الغاية إلى غير ذلك .
A E