والباء في ( بخالصة ) للسببية تنبيها على سبب عصمتهم . وعبر عن هذا السبب تعبيرا مجملا تنبيها على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل ( أخلصناهم ) على نحو قول النبي A لمن سأله عن اقتناعه من أكل لحم الضب " أني تحضرني من الله حاضرة " أي حاضرة لا توصف ثم بينت هذه الخالصة بأقصى ما تعبر عنه اللغة وهي أنها ( ذكرى الدار ) .
والذكرى : اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرجعي والبقيا لأن زيادة المبنى تقتضي زيادة المعنى . والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا فالدار التي هي محل عنايتهم هي الدار الآخرة قال النبي A " فأقول ما لي وللدنيا " .
وأشار قوله تعالى ( بخالصة ذكرى الدار ) إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبي A شدة الحذر من المعصية وحب الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبي يكره بها المعاصي فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا : العصمة عدم خلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية وقول المعتزلة : إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية وبه يظهر أيضا أن العصمة لا تنافي التكليف وترتب المدح على الطاعات .
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر ( خالصة ) بدون تنوين لإضافته إلى ( ذكرى الدار ) والإضافة بيانية لأن ( ذكرى الدار ) هي نفس الخالصة فكأنه قيل : بذكرى الدار وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله وإنما ذكر لفظ ( خالصة ) ليقع إجمال ثم يفصل بالإضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا ليه . والتعريف بالإضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام .
وقرأ الجمهور بتنوين ( خالصة ) فيكون ( ذكرى الدار ) عطف بيان أو بدلا مطابقا . وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر .
وإضافة ( خالصة ) إلى ( ذكرى الدار ) في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف .
ويجوز أن يكون ( ذكرى ) مرادف الذكر بكسر الذال أي الذكر الحسن كقوله تعالى ( وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) وتكون ( الدار ) هي الدار الدنيا .
ويجوز أن يكون مرادفا للذكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين . والدار : الدار الآخرة .
وعطف عليه ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخيارا .
والأخيار : جمع خير بتشديد الياء أو جمع خير بتخفيفها مثل الأموات جمعا لميت وميت وكلتا الصيغتين تدل على شدة الوصف في الموصوف .
( واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار [ 48 ] ) A E فصل ذكر إسماعيل عن عده مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية أي معظمها فإنه أبو العدنانيين . وجد للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جرهمية فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا .
وأما قرنه ذكره بذكر أليسع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله ( وكل من الأخيار ) لأن التماثل في الخيرية ثابت لجمع الأنبياء والمرسلين فلا يكون ذكرهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في المفتاح قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله : .
لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم حيث جمع بين مرارة النوى وكريم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعالى علم الله بهما وذلك مساو لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية