واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدر حصولها غير حاصلة الآن والمقدر هو الناطق بها وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان فلا تحتفل بما أطال به في الكشاف ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات .
وإن كان وضعا معترضا في أثناء القصة كان تنويها بإسحاق وكان حالا حاصلة .
وقوله ( من الصالحين ) حال ثانية وذكرها للتنويه بشأن الصلاح فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبي لا بد أن يكون صالحا والنبوة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة .
وبارك جعله ذا بركة والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) في سورة آل عمران . وقوله ( وبركات عليك ) في سورة هود .
و ( على ) للاستعلاء المجازي أي تمكن البركة من الإحاطة بهما .
A E ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال ( ومن ذريتهما محسن ) أي عامل بالعمل الحسن ( وظالم لنفسه ) أي مشرك غير مستقيم للإشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون ؛ فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ومن ذرية إسحاق مثلهم ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلى الله عليهما ونظيره قوله تعالى ( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الضالمين ) في سورة البقرة .
وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وعلى أن فساد الأعقاب لا يعد غضاضة على الآباء وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتساع بفضائل الخلال فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم وإنها مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام وأنهم الأولى بالمسجد الحرام . قال أبو طالب في خطبة خديجة للنبي A " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا رجال حرمه وسدنة بيته " فكان ذلك قبل الإسلام وقال الله تعالى لهم بعد الإسلام ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) . وقال تعالى ( وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ) وقال ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ) .
وقد ضرب الله هذه القصة مثلا لحال النبي A في ثباته على إبطال الشرك وفيما لقي من المشركين وإيماء إلى أنه يهاجر من أرض الشرك يهديه في هجرته ويهب له أمة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعا فقال ( إن إبراهيم كان أمة ) .
وفي قوله تعالى ( ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) مثل لحال النبي A والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة .
( ولقد مننا على موسى وهارون [ 114 ] ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم [ 115 ] ونصرناهم فكانوا هم الغالبين [ 116 ] ) عطف على قوله ( ولقد نادانا نوح ) والمناسبة هي ما ذكر هنالك .
وذكر هنا ما كان منة على موسى وهارون وهو النبوة فإنها أعظم درجة يرفع إليها الإنسان ولذلك أكتفي عن تعيين الممنون به لحمل الفعل على أكمل معناه . وجعلت منة من الله عليهما لأن موسى لم يسأل النبوة إذ ليست النبوة بمكتسبة وكانت منة على هارون أيضا لأنه إنما سأل له موسى ذلك ولم يسأله هارون فهي منة عليه وإرضاء لموسى والمنة عليهما من قبيل إيصال المنافع فإن الله أرسل موسى لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد القبط لإبراهيم وإسرائيل .
وفي اختلاف مبادئ القصص الثلاث إشارة إلى أن الله يغضب لأوليائه ؛ إما باستجابة دعوة وإما لجزاء على سلامة طوية وقلب سليم وإما لرحمة منه ومنة على عباده المستضعفين . وإنجاء موسى وهارون وقومهما كرامة أخرى لهما ولقومهما بسببهما وهذه نعمة إزالة الضر فحصل لموسى وهارون نوعا الإنعام وهما : إعطاء المنافع ودفع المضار