الدليل العاشر : أنه لو كان المراد بالغلام الحليم إسحاق لكان قوله تعالى بعد هذا ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) تكريرا لأن فعل : بشرناه بفلان غالب في معنى التبشير بالوجود .
واختلف علماء السلف في تعيين الذبيح فقال جماعة من الصحابة والتابعين : هو إسماعيل وممن قاله أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن عمر وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان . وقاله من التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد وعلقمة والكلبي والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وأحمد بن حنبل . وقال جماعة : هو إسحاق ونقل عن ابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وعمر وعلي من الصحابة وقاله جمع من التابعين منهم : عطاء وعكرمة والزهري والسدي .
وفي جامع العتبية أنه قول مالك بن أنس .
فإن قلت : فعلام جنحت إليه واستدلت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق فكيف تتأول ما وقع في سفر التكوين ؟ A E قلت : أرى أن ما سفر التكوين نقل مشتتا غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم فلما نقل القلة التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر سجلت قضية لذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليه السلام وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق . ويدل لذلك قول الإصحاح الثاني والعشرين " وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك " الخ ؛ فهل المراد من قولها : بعد هذه الأمور بعد جميع الأمور المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم .
( وتركنا عليه في الآخرين [ 108 ] سلام على إبراهيم [ 109 ] كذلك نجزي المحسنين [ 110 ] إنه من عبادنا المؤمنين [ 111 ] ) القول في ( وتركنا عليه في الآخرين ) نظير الكلام المتقدم في ذكر نوح عليه السلام في هذه السورة وإعادته هنا تأكيد لما سبق لزيادة التنويه بإبراهيم عليه السلام .
ويرد أن يقال : لماذا لم تؤكد جملة ( كذلك نجزي المحسنين ) ب ( إن ) هنا وأكدت مع ذكر نوح وفيما تقدم من ذكر إبراهيم . وأشار في الكشاف أنه لما تقدم في هذه القصة قوله ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) وكان إبراهيم هو المجزي اكتفي بتأكيد نظيره عن تأكيده أي لأنه بالتأكيد الأول حصل الاهتمام فلم يبق داع لإعادته .
واقتصر على تأكيد معنى الجملة تأكيدا لفظيا لأنه تقرير للعناية بجزائه على إحسانه .
ولم يذكر هنا ( في العالمين ) لأن إبراهيم لا يعرفه جميع الأمم من البشر بخلاف نوح عليه السلام كما تقدم في قصته .
( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 112 ] وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 113 ] ) هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له وهي غير البشارة بالغلام الحليم فإسحاق غير الغلام الحليم . وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) .
وتسمية المبشر به إسحاق تحتمل أن الله عين له اسما يسميه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من التكوين " سارة امرأتك تلد ابنا وتدعو اسمه إسحاق " .
وتحتمل أن المراد : بشرناه بولد الذي سمي إسحاق وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سمي إسماعيل .
ومعنى البشارة به البشارة بولادته له لأن البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني .
وانتصب ( نبيا ) على الحال من ( إسحاق ) فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالا مقدرا لأن اتصاف إسحاق بالنبوة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجودا فالمعنى : وبشرناه بولادة ولد اسمه مقدرا حاله أنه نبي وعدم وجوده لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك وطول زمان الاستقبال لا يتحدد ومنه ما تقدم في قوله تعالى ( ويأتينا فردا ) في سورة مريم