وجيء بهذا الحال في هذه الآية لما يفيد موقع الحال من استحضار صورة تلك القوة إيثارا للإيجاز لاقتراب ختم السورة . ولذلك لم يؤت في نظائرها بجملة الحال ولكن أتى فيها بجملة وصف في قوله في سورة غافر ( الذين من قبلهم كانوا هم أشد نهم قوة وآثارا في الأرض ) وفي سورة الروم ( الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا في الأرض ) حيث أوثر فيها الإطناب بتعداد بعض مظاهر تلك القوة .
( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا الأرض إنه كان عليما قديرا [ 44 ] ) A E لما عرض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوة من قريش في معرض التمثيل بالأولين تهديدا واستعدادا لتلقي مثل عذابهم أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة ان لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية كزعمهم : أن لهم آلهة تمنعهم من عذاب الله بشفاعتها أو دفعها فقيل ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) أي هبكم أقوى من الأولين واشد حيلة منهم أو لكم من الأنصار ما ليس لهم فما انتم بمفلتين من عذاب الله لأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء كقوله ( وما انتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .
وجيء بلام الجحود مع ( كان ) المنفية لإفادة تأكيد نفي كل شيء يحول دون قدرة الله وإرادته فهذه الجملة كالاحتراس .
ومعنى ( يعجزه ) : يجعله عاجزا عن تحقيق مراده فيه فيفلت أحد عن مراد الله منه .
وجملة ( إنه كان عليما قديرا ) تعليل لانتفاء شيء يغالب مراد الله بأن الله شديد العلم واسعه لا يخفي عليه شيء وبأنه شديد القدرة .
وقد حصر هذان الوصفان انتفاء أن يكون شيء يعجز الله لأن عجز المريد عن تحقيق إرادته : إما أن يكون سببه خفاء موضع تحقق الإرادة وهذا ينافي إحاطة العلم أو عدم استطاعة التمكن منه وهذا ينافي عموم القدرة .
( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا [ 45 ] ) تذكير لهم عن أن يغرهم تأخير المؤاخذة فيحسبوه عجزا أو رضى من الله بما هم فيه فهم الذين قالوا ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) فعلمهم أن لعذاب الله آجالا اقتضتها حكمه فيها رعي مصالح أمم آخرين أو استبقاء أجيال آتين . فالمراد ب ( الناس ) مجموع الأمة وضمير ( ما كسبوا ) وضمير ( يؤخرهم ) عائد إلى ( أجل ) .
ونظير هذه الآية تقدم في سورة النحل إلى قوله ( فإذا جاء أجلهم ) إلا أن هذه الآية جاء فيها ( بما كسبوا ) وهنالك جاء فيها ( بظلمهم ) لأن ما كسبوا يعم الظلم وغيره . وأوثر في سورة النحل ( بظلمهم ) لأنها جاءت عقب تشنيع ظلم عظيم من ظلمهم وهو ظلم بناتهم الموؤدات وإلا أن هنالك قال ( ما ترك عليها ) وهنا ( ما ترك على ظهرها ) وهو تفنن تبعه المعري في قوله : .
وإن شئت فأزعم أن من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إليك يشهد والضمير للأرض هنا وهناك في البيت لأنها معلومة من المقام . والظهر : حقيقته متن الدابة الذي يظهر منها وهو ما يعلو الصلب من الجسد وهو مقابل البطن فأطلق على ظهر الإنسان أيضا وإن كان غير ظاهر لأن الذي يظهر من الإنسان صدره وبطنه . وظهر الأرض مستعار لبسطها الذي يستقر عليه مخلوقات الأرض تشبيها للأرض بالدابة المركوبة على طريقة المكنية . ثم شاع ذلك فصار من الحقيقة .
فأما قوله هنا ( فأن الله كان بعباده بصيرا ) وقد قال هنالك ( لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) فما هنا إيماء هي الحكمة في تأخيرهم إلى أجل مسمى . والتقدير : فإذا جاء أجلهم أخذهم بما كسبوا فإن الله كان بعباده بصيرا أي عليما في حالي التأخير ومجيء الأجل ولهذا فقوله ( فإن الله كان بعباده بصيرا ) دليل جواب ( إذا ) وليس هو جوابها ولذلك كان حقيقا بقرنه بفاء التسبب وأما ما في سورة النحل فهو الجواب وهو تهديد بأنه إذا جاء أجلهم وقع بهم العذاب دون إمهال