واعلم أن قوله تعالى ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) قد جعل في علم المعاني مثالا للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب . وأول من رأيته مثل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في الإيضاح وفي تخليص المفتاح وهو مما زاده على ما في المفتاح ولم يمثل صاحب المفتاح للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب في كتابه .
A E وإذ قد صرح صاحب المفتاح " أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم " فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بله المعجز . ومن العجيب إقرار العلامة التفتزاني كلام صاحب تلخيص المفتاح وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين : جملة إثبات للمقصود وجملة نفيه عما سواه فالمساواة أن يقال : يحيق المكر السيء بالماكرين دون غيرهم فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريق الإيجاز .
وفيه أيضا حذف مضاف إذ التقدير : ولا يحيق ضر المكر السيء إلا بأهله على أن في قوله ( بأهله ) إيجازا لأنه عوض عن أن يقال : باللذين تقلدوه . والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة .
وقرأ حمزة وحده ( ومكر السيء ) بسكون الهمزة في حالة الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف .
( فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا [ 43 ] ) تفريع على جملة ( فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ) الآية .
ويجوز أن يكون تفريعا على جملة ( ولا يحيق المكر الشيء إلا بأهله ) على الوجه الثاني في تعريف ( المكر ) وفي المراد ب ( أهله ) أي كما مكر الذين من قبلهم فحاق بهم مكرهم كذلك هؤلاء .
و ( ينظرون ) هنا من النظر بمعنى الانتظار . كقول ذي الرمة .
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر العطاش حيا الغمام فقوله ( إلى ) مفرد مضاف وهو النعمة وجملة آلاء .
ومعنى الانتظار هنا : أنهم يستقبلون ما حل بالمكذبين قبلهم فشبه لزوم حلول العذاب بهم بالشيء المعلوم لهم المنتظر منهم على وجه الاستعارة .
والسنة : العادة : والأولون : هم السابقون من الأمم الذين كذبوا رسلهم بقرينة سياغ الكلام . و ( سنة ) مفعول ( ينظرون ) وهو على حذف مضاف . تقديره : مثل أو قياس وهذا كقوله تعالى ( فهل ينظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) .
والفاء في قوله ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ) فاء فصيحة لأن ما قبلها لما ذكر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطراد سنن الله تعالى في خلقه .
والتقدير : إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلا .
و ( لن ) لتأكيد النفي .
والخطاب في ( تجد ) لغير معين فيعم كل مخاطب وبذلك يتسنى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال . وفي هذا تسلية للنبي A وتهديد للمشركين .
والتبديل : تغيير شيء وتقدم عند قوله تعالى ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) في سورة النساء .
والتحويل : نقل الشيء من مكان إلى غيره وكأنه مشتق من الحول وهو الجانب .
والمعنى : أنه لا تقع الكرامة في موقع العقاب ولا يترك عقاب الجاني . وفي هذا المعنى قول الحكماء : ما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف .
( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة ) عطف على جملة ( فهل ينظرون إلا سنة الأولين ) استدلالا على أن مساواتهم للأولين تنذر بأن سيحل بهم ما حل بأولئك من نوع من يشاهدونه من آثار استئصالهم في ديارهم .
وجملة ( وكانوا اشد منهم قوة ) في موضع الحال أي كان عاقبتهم الاضمحلال مع انهم اشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب