وعطف ( وقالوا ) على ( أخذوا ) أي يقولون حينئذ : آمنا به .
وضمير ( به ) للوعيد أو ليوم البعث أو للنبي A أو القرآن إذا كان الضمير محكيا من كلامهم لأن جميع ما يصح معادا للضمير مشاهد لهم وللملائكة فأجمعوا فيما يراد الإيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه منجيا لهم من العذاب وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قوله ( قل إن ربي يقذف بالحق ) لأن الحق يتضمن ذلك كله .
A E ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم ( آمنا به ) إلى إضاعتهم وقت الإيمان بجملة ( وأنى لهم التناوش ) إلى آخرها .
و ( أنى ) استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإنكار .
و ( التناوش ) قرأه الجمهور بواو مضمومة بعد الألف وهو التناول السهل أو الخفيف وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه قال غيلان بن حريث : .
باتت تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا يتحدث عن رحلته أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه .
وجملة ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) مركب تمثيلي يفيد تشبيه حالهم إذ فرطوا في أسباب النجاة وقت المكنة منها حين كان النبي A يدعوهم ويحرضهم ويحذرهم وقد عمرهم الله ما يتذكر فيه من تذكر ثم جاؤوا يطلبون النجاة بعد فوات وقتها بحالهم كحال من يريد تناوشها وهو في مكان بعيد عن مراده الذي يجب تناوله .
وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه بأن يشبه السعي بما يحصل بسرعة بالتناوش ويشبه فوات المطلوب بالمكان البعيد كالحوض .
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بالهمز في موقع الواو فقال الزجاج : وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى ( أقتت ) وقولهم : أوجه : جمع وجه . وبحث فيه أبو حيان وقال الفراء والزجاج أيضا . هو من ناش بالهمز إذ أبطأ وتأخر في عمل . ومنه قول نهشل بين حري النهشلي : .
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور أي تمنى أخيرا . وفسر المعري في رسالة الغفران نئيشا بمعنى : بعد ما فات . وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم ( آمنا به ) بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته .
وفي الجمع بين ( مكان قريب ) و ( مكان بعيد ) محسن الطباق .
وجملة ( وقد كفروا به من قبل ) في موضع الحال أي كيف يقولون آمنا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبل في وقت التمكن فهو كقوله تعالى ( وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) .
و ( يقذفون ) عطف على ( كفروا ) فهي حال ثانية . والتقدير : وكانوا يقذفون بالغيب . واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى ( ويصنع الفلك ) .
والقذف : الرمي باليد من بعد . وهو هنا مستعار للقول بدون ترو ولا دليل أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم : هم شفعاؤنا عند الله .
ولك أن تجعل ( يقذفون بالغيب من مكان بعيد ) تمثيلا مثل ما في قوله ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) شبهوا بحال من يقذف شيئا وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة .
وحذف مفعول ( يقذفون ) لدلالة فعل ( وقد كفروا به من قبل ) عليه أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافا .
والغيب : المغيب . والباء للملابسة والمجرور بها في موضع الحال من ضمير ( يقذفون ) أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد .
و ( مكان بعيد ) هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا وهي مكان بعيد عن الآخرة للاستغناء عن استعارته لما لا يشاهد منه بقوله ( بالغيب ) كما علمت فتعين للحقيقة لأنها الأصل وبذلك فليس بين لفظ ( بعيد ) المذكور هنا والذي في قوله ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ) ما يشبه الإيطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة .
( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب [ 54 ] )