وأما قوله ( وإن اهتديت فبما يوحي ألي ربي ) فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصرا على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لولا إرشاد الله إياه كما قال تعالى ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) .
A E واختير في جانب الهدى فعل ( اهتديت ) الذي هو مطاوع ( هدى ) لما فيه من الإيماء إلى أن له هاديا وبينه بقوله ( فبما يوحي إلي ربي ) ليحصل شكره لله إجمالا ثم تفصيلا وفي قوله ( فبما يوحي إلي ربي ) إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحيا من الله وارد إليه .
وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه من إسناد فعل ( أضل ) إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم وهو أغرق في التعلق به وليس الغرض من ذلك الكلام بيان التسبب ولمن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به ولم يرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتداءه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملا له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناس إلى اتباعه ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجح جانب اهتدائه بقوله ( فبما يوحي إلي ربي ) .
على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه .
وجملة ( إنه سميع قريب ) تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابلة من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه .
والقريب هنا كناية عن العلم والإحاطة فيه فهو قريب مجازي . وهذا تعريض بالتهديد .
( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب [ 51 ] وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ 52 ] وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد [ 53 ] ) لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدول عليها بقوله ( فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي ألي ربي ) للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحل بهم الفزع من مشاهدة ما هددوا به .
والخطاب للنبي A تسلية له أو لكل مخاطب . وحذف جواب ( لو ) للتهويل . والتقدير : لرأيت أمرا فظيعا .
ومفعول ( ترى ) يجوز أن يكون محذوفا أي لو تراهم أو ترى عذابهم ويكون ( إذ فزعوا ) ظرفا ل ( ترى ) ويجوز أن يكون ( إذ ) هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية أي لو ترى ذلك الزمان أي ترى ما يشمل عليه .
والفزع : الخوف المفاجئ وقال النبي A للأنصار : " إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع " . وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيئين لهذا الوقت أسباب النجاة من هوله .
والأخذ : حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى ( فأخذهم أخذة رابية ) . والمعنى : أمسكوا وقبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب .
وجملة ( فلا فوت ) معترضة بين المتعاطفات . والفوت : التفلت والخلاص من العقاب قال رويشد الطائي : .
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... مما علي بذنب منكم فوت أي إذ أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم .
وفي الكشاف : " ولو وإذ والأفعال التي هي فزعوا وأخذوا وحيل بينهم كلها للمضي والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووجد لتحقيقه " اه . ويزداد عليها فعل ( وقالوا ) .
والمكان القريب : المحشر أي أخذوا منه إلى النار فاستغنى بذكر ( من ) الابتدائية عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية ومعنى قريب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب .
وليس بين كلمتي ( قريب ) هنا والذي في قوله ( إنه سميع قريب ) ما يشبه الإيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسن الجناس التام