أو هو إشارة إلى قوله ( بل نقذف بالحق على الباطل ) وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين .
A E وتخصيص وصف ( علام الغيوب ) من بين الأوصاف الإلهية للإشارة إلى أنه عالم بالنوايا وأن القائل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلا أنه أرسله إليكم فالإعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدته وهو العلم بالحكم الخبري .
ويجوز أن يكون معنى ( يقذف بالحق ) يرسل الوحي أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) ويكون قوله ( علام الغيوب ) إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون : لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد .
وأرتفع ( علام ) على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو علام الغيوب أو على أنه نعت لاسم ( إن ) إما مقطوع وإما لمراعاة محل اسم ( إن ) حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق . وقال الفراء : رفع الاسم هذا هو غالب كلام العرب . ومثله بالبدل في قوله تعالى ( أن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) .
وقرأ الجمهور ( الغيوب ) بضم الغين . وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في باء ( بيوت ) .
( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [ 49 ] ) أعيد فعل ( قل ) للاهتمام بالمقول كما تقدم أنفا .
وجملة ( قل جاء الحق ) تأكيد لجملة ( قل إن ربي يقذف بالحق ) فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإسلام . وعطف ( وما يبدئ الباطل وما يعيد ) على ( جاء الحق ) لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حل فيه الحق .
و ( يبدئ ) مضارع أبدأ بهمزة في أوله وهمزة في أخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة : أجاء وأسرى . وإسناد الإبداء والإعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة .
ومعنى ( ما يبدئ الباطل وما يعيد ) الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى ( إن الباطل كان زهوقا ) في سورة الإسراء ) . وذلك أن الموجود الذي تكون له آثار إما أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إبداء ولا إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون ( ما يبدئ وما يعيد ) كناية عن الهلاك كما قال عبيد بن الأبرص : .
أفقر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد ( يعني نفسه ) .
ويقولون أيضا : فلان ما يبدئ وما يعيد أي يتكلم ببادئة ولا عائدة أي لا يرتجل كلاما ولا يجيب عن كلام غيره . وأكثر ما يستعمل فعل ( أبدأ ) المهموز أوله مع فعل ( أعاد ) مزدوجين في إثبات أو نفي وقد تقدم قوله ( أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ) في سورة العنكبوت .
( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب [ 50 ] ) لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبي E غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الرد عليهم قاطعا بأنه على هدى بقوله ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) انتقل هنا إلى متاركة جدالهم وتركهم وشأنهم لقلة جدوى مراجعتهم .
وهذا محضر خاص وطي بساط مجاس واحد فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلا مشتملا على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم .
وصيغة القصر التي في قوله ( فإنما أضل على نفسي ) لقصر الضلال المفروض أي على نفسي لا عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلع عما دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم .
وتعدية ( أضل ) بحرف ( على ) تتضمن استعارة مكنية إذ شبه الضلال بجريرة عليه فعداه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكره عليها غير الملائمة عكس اللام وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يقال : ضمن ( أضل ) معنى أجني لأن ( ضللت ) الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر