وهم لما دعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض لجائزة الشاعر وحلوان الكاهن فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن إلا أن يزعموا أنه يطلب أجرا على الإرشاد فقيل لهم : ما سألتكم من أجر فهو لكم إن كان بكم ظن انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه فما كان لي من أجر عليه فخذوه . وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجرا ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ) أو أن كنت سألتكم أجرا فلا تعطونيه وإن كنتم أعطيتم شيئا فاستردوه فكني بهذا الشرط المحقق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالبا أجرا منهم على حد قوله تعالى ( إن كنت قلته فقد علمته ) . وهذا ما صرح به عقبه من قوله ( إن أجري إلا على الله ) فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدل على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفاءه في المستقبل أيضا . وهذا جار مجرى التحدي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجرا منهم لجاروا حين هذا التحدي بمكافحته وطالبوه برده عليهم .
وينتقل من هذا إلى تعيين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي A يريد منهم أجرا أو يتطلب نفعا لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يؤيد جزاء منهم .
و ( ما ) يجوز أن تكون شرطية و ( من أجر ) بيانا لإبهام ( ما ) وجملة ( فهو لكم ) جواب الشرط . ويجوز أن تكون ما نافية . وتكون ( من ) لتوكيد عموم النكرة في النفي وتكون الفاء في قوله ( فهو لكم ) تفريعا على نفي الأجر وضمير ( هو ) عائدا على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله ( ما سألتكم من أجر ) يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة . ويكون معنى الآية نظير معنى قوله تعالى ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
والأجر تقدم عنه قوله تعالى ( ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) في سورة القصص .
وجملة ( إن أجري إلا على الله ) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر أن يسأل السامع : كيف لا يكون له على ما قام به أجر فأجيب بأن أجره مضمون وعده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره .
وحرف ( على ) يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وعده الصادق ثم ذيل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها وعليم بخفاياها فهو من باب ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) أي وهو شاهد على ذلك كله .
والأجر : عوض نافع عن عمل سواء كان مالا أو غيره .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء ( أجري ) مفتوحة . وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإضافة .
( قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب [ 48 ] ) لا جرم انتهى الاستدلال والمجادلة أن ينتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم .
وأعيد فعل ( قل ) للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفا .
والتأكيد لتحقيق هذا الخبر .
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبيه ويؤيده . فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعم الناس كلهم .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوي لأن تقوي الجملة حصل بحرف التأكيد . وهذا الاختصاص باعتبار ما في ( يقذف بالحق ) من معنى : الناصر لي دونكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم .
والقذف : إلقاء الشيء من اليد وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه . والمعنى : أن ربي يقذفكم بالحق