والمراد بالصاحب : المخالط مطلقا بالموافقة والمخاصمة وهو كناية عن التبصر في خلقه كقول الحجاج في خطبته للخوارج " ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر " يعني فلا تخفى علي مقاصدكم . وتقدم في قوله تعالى ( أو لم يتفكروا ما بصاحبكم من جنة ) في سورة الأعراف .
والتعبير ( بصاحبكم ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : ما بي من جنة إذ الكلام جار على لسان الرسول A كما تقدم آنفا .
وفائدته التنبيه على أن حال معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تذر للجهالة مجالا فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله ( فلقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) .
A E والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجنة عن النبي A هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا : مجنون وقالوا : ساحر وقالوا : كاذب . فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجنة عنه حتى إذا أذعنوا إلى انه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن قال تعالى ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) في السورة الثانية نزولا . وقال ( وما صاحبكم بمجنون ) في السورة السابعة وذلك هو الذي استمروا قال تعالى ( ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قال عد لهود ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) وقالت ثمود لصالح ( قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) .
فبقيت دعواهم أنه ساحر وانه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب ( حاشاه ) . فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما فأما انتفاء السحر فبين لأنه يحتاج إلى معالجة تعلم ومزاولة طويلة والنبي A بين ظهرانيهم لا يخفي عليهم أمره وأما الشعر فمسحته منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله وهذا يزيفه قولهم ( بصاحبكم ) فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذبا كما قال النظر بن الحارث : فلما رأيتم الشيب في صدغيه قلتم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون و والله ما هو بأولئكم . وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله : هل جربتم عليه كذبا قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : لا . قال : فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله .
ومن أجل هذا التدرج الذي طوي تحت جملة ( ما بصاحبكم من جنة ) أعقب ذلك بحصر أمره في النذارة بقرب عذاب واقع أي في النذارة والرسالة الصادقة .
قال في الكشاف : أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان : إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان وأما عاقل راجح والعقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمد A ما به من جنة بل علمتموه أرجح قريش عقلا وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا وأصدقهم قولا وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن يظنوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب " اه .
فالقصر المستفاد من ( إن هو إلا نذير لكم ) قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها .
ومعنى ( بين يدي عذاب ) القرب أي قرب الحصول فيقتضي القبلية أي قبل عذاب وقد تقدم آنفا في هذه السورة والمراد عذاب الآخرة .
( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد [ 47 ] ) هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم : كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا انه يريد بهذه الدعوى نفعا لنفسه يكون أجرا له على التعليم والإرشاد .
A E