وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهموا الإقبال على النظر الذي عقدوا نيا تهم على رفضه فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهدا ولا يضيع عليهم زمنا فليتأملوا فيه قليلا ثم يقضوا قضاءهم والكلام على لسان النبي A أمره الله أن يخاطبهم به .
والوعظ : كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في لا ضده . وتقدم عند قوله تعالى ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظتا وتفصيلا لكل شيء ) في سورة الأعراف وقوله ( يعظكم الله ) في سورة النور .
و ( واحدة ) صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو : بخصلة أو بقضية أو بكلمة .
ولمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريبا للأفهام واختصارا في الاستدلال وإيجاز في نظم الكلام واستنزالا لطائر نفورهم وأعراضهم . وبنيت هذه الواحدة بقول ( أن تقوموا لله مثنى وفرادى ) إلى آخره فالمصدر المنسبك من ( أن ) والفعل في موضع البدل من ( واحدة ) أو قل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق وإنما أختلف التعبير عنه عند المتقدمين فلا تخض في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا .
والقيام في قوله ( أن تقدموا ) مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) .
A E واللام للتعليل أي لأجل الله ولذاته أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة وهذا عكس قوله تعالى ( وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم ) أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته .
وكلمة ( مثنى ) معدول بها عن قولهم : اثنين اثنين بتكرير كلمة اثنين تكريرا يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يعد بعدد اثنين منه مرصفا على نحو عدده .
وكلمة ( فرادى ) معدول بها عن قولهم : فردا فردا تكريرا يفيد معنى الترصيف كذلك . وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) وتقدم في سورة النساء .
وانتصب ( مثنى وفراد ) على الحال من ضمير ( تقوموا ) أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى : أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد فيكون ( مثنى ) كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازما للتثنية ادعاء كما في قوله تعالى ( ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) فإن البصر لا يرجع خاسئا من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر ومنه قولهم : لبيك وسعديك وقولهم : دواليك .
ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعينا أحدكم بصاحب له او منفرد بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخلوة . ومنهم من حاله بعكس هذا فلهذا أقتصر على ( مثنى وفرادا ) لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه . وقدم ( مثنى ) لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى ولا شبهة ولا يخشى فيه الناظر تشنيعا ولا سمعة فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخلو مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع وهؤلاء " بما يلزم نواياهم من الخبث " تصحبهم جرأة لا تترك فيهم وازعا عن الباطل ولا صدا عن الاخنلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأ ولا حياء يهذب من حدتهم في الخصام والأذى ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة .
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا ( مثنى وفرادا ) فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح وإذا خلى ثاني أثنين فهو إنما يختا ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه .
وحرف ( ثم ) للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي A أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبونه .
والتفكر : تكلف الفكر وهو العلم وتقدم عند قوله تعالى ( أفلا تتفكرون ) في الأنعام .
وقوله ( ما بصاحبكم من جنة ) نفي يعلق فعل ( تتفكروا ) عن العمل لأجل حرف النفي .
والمعنى : ثم تعلموا نفي الجنون عن صاحبكم أي تعلموا مضمون هذا .
فجملة ( ما بصاحبكم من جنة ) معمولة ل ( تتفكروا ) . ومن وقف على ( تتفكروا ) لم يتقن التفكر