وأظهر المشار إليه قبل اسم الإشارة في قوله ( للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ) لأن لا دليل عليه في الكلام السابق أي إذ اظهر لهم ما هو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا : ما هذا إلا سحر مبين . فالمراد من الحق : ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان : أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهن من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحيل وخفة أيد تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات فذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدة معجزة تكثير الماء في بعض غزوات النبي A فقالت لقومها " أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموه " ومعنى ( مبين ) أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه يعنون أن من سمعه يعلم انه سحر .
وجملة ( وقال الذين كفروا ) معطوفة على جملة ( وإذا تتلى ) .
( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 44 ] ) الواو للحال والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله ( قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آبائكم ) الآية تحميقا لجهالتهم وتعجيبا من حالهم في أمرين .
A E أحدهما : أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه فيكون معنى الآية فكيف رفضوا اتباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدر بهم الاغتباط بذلك . وهذا المعنى هو المناسب لقوله ( يدرسونها ) أي لم يمونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق .
وثانيهما : أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدق الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر : فيكون المعنى : التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم فليس معنى جملة ( وما آتيناهم من كتب ) الخ على العطف ولا على الإخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإخبار به . ولكن على الحال إفادة التعجيب والتحميق وعلى هذا المعنى جرى المفسرون .
والدراسة : القراءة بتمهل وتفهم وتقدم عند قوله تعالى ( وبما كنتم تدرسون ) في آل عمران .
وإنما لم يقيد إيتاء الكتب بقيد كما قيد الإرسال بقوله ( قلبك ) لأن الإيتاء هو التمكين من الشيء وهم لم يتمكنوا من القرآن بخلاف إرسال النذير فهو حاصل سواء تقبلوه أم أعرضوا عنه .
ومن نحا نحو أن يكون معنى الآية بين حالهم وحال أهل الكتاب فذلك منحى واهن لأنه يجر إلى معذرة أهل الكتاب في عضهم بالنواجذ على دينهم على أنه لم يكن في مدة نزول الوحي بمكة علاقة للدعوة الإسلامية بأهل الكتاب وإنما دعاهم النبي A بالمدينة وأيضا لا يكون للتقييد ب ( قلبك ) فائدة خاصة كما علمت . وهنالك تفسيرات أخرى أشد بعدا وأبعد عن القصد جدا .
( وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير [ 45 ] ) هذا تسلية للرسول A وتهديد للذين كذبوه فموقع التسلية منه قوله ( وكذب الذين من قبله ) وموقع التهديد بقية الآية فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذبت رسلها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ) .
ومفعول ( كذب ) محذوف دل عليه ما بعده أي كذبوا بالرسل دل عليه قوله ( فكذبوا رسلي ) .
وضمير ( باغوا ) عائد إلى ( الذين من قبلهم ) والضمير المنصوب في ( آتيناهم ) عائد إلى ( الذين كفروا ) في قوله ( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا سحر مبين ) . والمقام يرد على كل ضمير إلى معاده كما قريبا عند قوله تعالى ( أكثرهم بهم مؤمنون )