فمعنى ( أنت ولينا ) لا نوالي غيرك أي لا نرضى به وليا والعبادة ولاية بين العابد والمعبود ورضي المعبود بعبادة عابده إياه ولاية بين المعبود وعابده فيقول الملائكة ( سبحانك ) تبرؤ من الرضى بأن يعيدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإلهية لأن العابد لا يكون معبودا . ولقد تقدم الكلام على لفظ ( ولي ) عند قوله تعالى ( قل أغير الله أتخذ وليا ) في سورة الأنعام وفي آخر سورة الرعد .
و ( من ) زائدة للتوكيد و ( دون ) اسم لمعنى غير أي أنت ولينا وهم ليس أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم ف ( من دونهم ) تأكيد لما أفادته جملة ( أنت ولينا ) من الحصر لتعريف الجزأين .
و ( بل ) للإضراب الانتقالي انتقالا من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سولوا لهم عبادة غير الله تعالى وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة والمعنى بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجن راضين بعبادتهم إياهم . وحاصل المعنى أنا منكرون عبادتهم إيانا ولم نأمرهم بها ولكن الجن سولت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة .
وجملة ( أكثرهم ) للمشركين وضمير ( بهم ) للجن والمقام يرد كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين : .
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا أي أحرز جمع المشركين ما جمعه المسلمون من مغانم .
A E وقرأ الجمهور ( نحشرهم ) و ( نقول ) بنون العظمة . وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما والضمير عائد إلى ( ربي ) من قوله ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ) .
( فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ) الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجن . والفاء فصيحة ناشئة عن المقاولة السابقة . وهي كلام موجه من جانب الله تعالى إلى الملائكة والمقصود به : التعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر فلا نقصد إفادتهم به . والمعنى : إذ علمتم أنكم عبتم الجن فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا .
ويجوز أن يكون من خطاب الملائكة للفريقين بعد أداء الشهادة عليهم توبيخا لهم وإظهارا للغضب عليهم تحقيقا للتبرؤ منهم والفاء أيضا فصيحة وهي ظاهرة .
وقدم الظرف على عامله لأن النفع والضر يومئذ قد أختص صغيرهما وكبيرهما بالله تعالى خلاف ما كان في الدنيا من نفع الجن عبادتهم ببعض المنافع الدنيوية ونفع المشركين الجن بخدمة وساوسهم وتنفيذ أغراضهم من الفتنة والإضلال وكذلك الضر في الدنيا أيضا .
والملك هنا بمعنى : القدرة أي لا يقدر بعضكم على بعض نصر أو نفع .
وتقدم عند وقوله تعالى ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ) في سورة العقود .
وقدم النقع في حيز النفي تأييسا لهم لأنهم يرجون أن يشفعوا لهم يومئذ ( ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله ) .
وعطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب .
( ونقول للذين ظلموا ذوقوأ عذاب الفنار التي كنتم بها تكذبون [ 42 ] ) عطف على قوله ( ثم نقول للملائكة ) . وقد وقع الإخبار عن هذا القول بعد الإخبار عن الحوار الذي يجري بين الملائكة وبين المشركين يومئذ إظهار لاستحقاقهم هذا الحكم الشديد ولكنه كالمعمول لقوله ( لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ) .
والذوق مجاز لمطلق الإحساس واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله .
ووصف النار بالتي كانوا يكذبون بها في صلة الموصول من لإيذان بغلطهم وتنديمهم .
وقد علق التكذيب هنا بنفس النار فجيء باسم الموصول المناسب لها ولم يعلق بالعذاب كما في آية سورة السجدة ( وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) لأن القول المخبر عنه هنا هو قو ل الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها كما قال تعالى آنفا ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) فإن الذي يرى هو ما به العذاب وأما القول المحكي في سورة السجدة فهو قول ملائكة العذاب بليل قوله ( كما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )