ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه وذلك أن الإنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملا لصفة الأمانة بفطرته والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودك الجبال .
والذي بين هذا المعنى قول حذيفة : " حدثنا رسول الله A حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الأخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " أي من أمانة لأن الإيمان من الأمانة لأنه عهد الله .
ومعنى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرفها وحينئذ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل .
والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيأ الإنسان لها إلا العقل كما أشار إليه قوله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ثم قوله ( وعلم آدم الأسماء كلها ) فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها .
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرون الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية .
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عهد به ورعيه والحذار من الإخلال به سهوا أو تقصيرا فيسمى تفريطا وإضاعة أو عمدا فيسمى خيانة وخيسا لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود و إخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبي A قال تعالى ( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ) وقال ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) . وهذا المحمل يتضمن أيضا أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هي العقل لأن قبول الأخلاق فرع منه .
وجملة ( إنه كان ظلوما جهولا ) محلها اعتراض بين جملة ( وحملها الإنسان ) والمتعلق بفعلها وهو ( ليعذب الله المنافقين ) الخ . ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبر أن الإنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإنسان بما حمله وتحمله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله .
فمعنى ( كان ظلوما جهولا ) أنه قصر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيرا : بعضه من غمد وهو المعبر منه بوصف ظلوم وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولا فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل .
والظلم : الاعتداء على حق الغير وأريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة وهو حق الوفاء بالأمانة .
والجهل : انتفاء العلم بما يتعين علمه والمراد به هنا انتفاء علم الإنسان بمواقع الصواب فيها تحمل به فقوله ( إنه كان ظلوما جهولا ) مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير : وحملها الإنسان فلم يف بها إنه كان ظلوما جهولا فكأنه قيل : فكان ظلوما جهولا أي ظلوما أي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه إجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيا كان وجهولا في عدم تقدير قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعة بها ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فطر على تحملها .
ويجوز أن يراد ظلوما جهولا في فطرته أي في طبع الظلم والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها .
A E