ولذلك فأفعال ( عرضنا وأبين ويحملنها وأشفقن منها وحملها ) أجزاء للمركب التمثيلي . وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إيداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض ويشبه عدم مصحح مواهي السماوات والأرض والجبال لإيداع الأمانة فيها بالإباء ويشبه الإيداع بالتحميل والحمل ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإشفاق ويشبه التلاؤم ومصحح القبول لإيداع وصف الأمانة في الإنسان بالحمل للثقل .
ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ . وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل .
وقد عدت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها ترددا دل على الحيرة في تقويم معناها . ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العرض على السماوات والأرض والجبال وإلى معرفة معنى الأمانة ومعرفة معنى الإباء والإشفاق .
فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل . وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولا وبعضها متداخل في بعض ولنبتدئ بالإلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها .
فقيل : الأمانة الطاعة وقيل : الصلاة وقيل : مجموع الصلاة والصوم والاغتسال وقيل : جميع الفرائض وقيل الانقياد إلى الدين وقيل : حفظ الفرج وقيل : الأمانة التوحيد أو دلائل الوحدانية أو تجليات الله بأسمائه وقيل : ما يؤتمن عليه ومنه الوفاء بالعهد ومنه انتفاء الغش بالعمل وقيل : الأمانة العقل وقيل : الخلافة أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإنسان كما قال تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) الآية .
وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف : صنف الطاعات والشرائع وصنف العقائد وصنف ضد الخيانة وصنف العقل وصنف خلافة الأرض .
ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفتر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول .
ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإنسان وفطرته ؛ فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإيمان أي توحيد الله وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى ( وإذ أخذ ربك من بني أدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) وتقدم في سورة الأعراف . فالمعنى : أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة ملازمة لها وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإدراك لمن قامت به ويناسب هذا المحمل قوله ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) فإن هذين الفريقين خالون من الإيمان بوحدانية الله .
ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفسية تودع عند من يحتفظ بها .
والمعنى : أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته ملائمة لأن يكون عاقلا فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سببا في اضطراب العوالم واندكاكها . وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به . فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفا فإنه لا يستطيع في الإفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره . وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان .
ومناسبة قوله ( ليعذب الله المنافقين ) الآية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول .
A E