استئناف ابتدائي أفاد الأنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملات بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقا فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعرا لهم بمصيرهم ومبينا سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض .
وموقع هذه الآية عقب ما قبلها وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطا بمضمون ما قبلها ويصلح عونا لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها ولو بتقليل الاحتمال والمصير إلى المآل .
والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع .
وافتتاح الآية بمادة العرض وصوغها في صيغة المضي وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يومئ إلى أن متعلق هذا العرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرض أزلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فصولها المقومة لمواهبها وخصائصها ومميزاتها الملائمة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله ( وإذ أخذ ربك من بين آدم من ظهور ذرياتهم ) الآية .
واختتام الآية بالعلة من قوله ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات ) إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإنسان في رعي الأمانة وإضاعتها .
فحقيق بنا أن نقول : إن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوع الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإنسان علم أن المراد بالإنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لما كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة بتعذيب المنافقين والمشركين ولما كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانة حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى .
فتعريف " الإنسان " تعريف الجنس أي نوع الإنسان .
والعرض : حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أو يقبله ومنه عرض الحوض على الناقة أي عرضه عليها أن تشرب منه وعرض المجندين على الأمير لقبول من تأهل منهم . وفي حديث ابن عمر : " عرضت على رسول الله وأنا ابن أربع عشرة فردني وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني " . وتقدم عند قوله تعالى ( أولئك يعرضون على ربهم ) في سورة هود وقوله ( وعرضوا على ربك صفا ) في سورة الكهف .
فقوله ( عرضنا ) هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السماوات والأرض والجبال ووضعها في الإنسان بحالة من يعرض شيئا على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال لإناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحية الإنسان لذلك فشهبت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإنسان ذلك بعرض شيء على أشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها .
وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات . فتخصيص ( السماوات والأرض ) بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات وعطف ( الجبال ) على ( الأرض ) وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصار عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) .
وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنى لها أن تختار وترفض وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد كمه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال : الطبيعة عمياء أي لا اختيار لها أي للجبلة وإنما تصدر منها آثارا قسرا .
A E