والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم . وقد حكى الله عنهم ذلك إجمالا وتفصيلا بقوله ( وإذ قال موسى لقومه ) الآية " فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله ( وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ) والاستفهام في قوله ( لم تؤذونني ) إنكاري " . فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد A يراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإذابة .
فالذين آذوا موسى قالوا مرة ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم . وقالوا مرة ( أتتخذنا هزؤا ) فنسبوه إلى الطيش والسخرية ولذلك قال لهم ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) . وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج " وقالوا لموسى فإذا بنا حتى أخرجتنا من مصر فإنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية " . وفي الإصحاح السادس عشر " وقالوا لموسى وهارون إنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع " . وفي الحديث " إن موسى كان رجلا حيا ستيرا فقال فريق من قومه : ما نراه يستتر إلا من عاهة فيه . فقال قوم : به برص وقال قوم : هو آدر " ونحو هذا وكان قريبا من هذا قول المنافقين : إن محمدا تزوج مطلقة ابنة زيد بن حارثة .
وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبي A وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضت فلتات من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حكم بينه وبين الزبير في ماء شراح الحرة : أن كان ابن عمتك يا رسول الله . ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمة مغانم حنين : " هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فقال رسول الله A يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر .
واعلم أن محل التشبيه هو قوله ( كالذين آذوا موسى ) دون ما فرع عليه من قوله ( فبرأه الله مما قالوا ) وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبينا A لم يؤذ إيذاء يقتضي ظهور براءته مما أوذي به .
ومعنى ( برأه ) أظهر براءته عيانا لأن موسى كان بريئا مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبت قلوبهم وافتتحوها وأظهر براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادارأوا فيها .
وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عريانا لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه . ومعنى ( برأه مما قالوا ) برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السبة القالة . ونظيره قوله تعالى ( ونرثه ما يقول ) أي ما دل عليه مقاله وهو قوله ( لأوتين مالا وولدا ) أي نرثه ماله وولده .
وجملة ( وكان عند الله وجيها ) في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته .
والوجيه صفة أي ذو الوجاهة . وهي الجاه وحسن القبول عند الناس . يقال : وجه الرجل بضم الجيم وجاهة فهو وجيه . وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجه الذي للإنسان فمعنى كونه وجيها عند الله أنه مرضي عنه مقبول له مستجاب الدعوة .
وقد تقدم قوله تعالى ( وجيها في الدنيا والآخرة ) في سورة آل عمران فضمه إلى هنا . وذكر فعل ( كان ) دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى .
وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه وتوجيه لتنزيه الله إياه بأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [ 70 ] يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [ 71 ] ) بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبي A وربأ بهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتسموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المناكر التلبس بالمحامد والتقوى جماع الخير في العمل والقول . والقول السديد مبث الفضائل .
A E