وإن كان المراد من الآيات ما في التوراة من الشرائع والمواعظ فإطلاق اسم الآيات عليها مشاكلة تقديرية لما هو شائع بين المسلمين من تسمية جمل القرآن آيات لأنها معجزة في بلاغتها خارجة عن طوق تعبير البشر . فكانت دلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا نحو ما وقع في حديث رجم اليهوديين من قول الراوي فوضع اليهودي يده على آية الرجم أي الكلام الذي فيه حكم الرجم في التوراة فسماه الرواي آية مشاكلة لكلام القرآن .
وفي هذا تعريض بالبشارة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يكونون أيمة لدين الإسلام وهداة للمسلمين إذ صبروا على ما لحقهم في ذات الله من أذى قومهم وصبروا على مشاق التكليف ومعاداة أهلهم وقومهم وظلمهم إياهم .
وتقديم ( بآياتنا ) على ( يوقنون ) للاهتمام بالآيات .
وقرأ الجمهور ( لما صبروا ) بتشديد الميم وهي ( لما ) التي هي حرف وجود لوجود وتسمى التوقيتية أي جعلناهم أئمة حين صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون . وقرأ حمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بتخفيف الميم على أنها مركبة من لام التعليل و ( ما ) المصدرية أي جعلناهم أيمة لأجل صبرهم وإيقانهم .
( إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [ 25 ] ) استئناف بياني لأن قوله تعالى ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ) يثير سؤالا في نفس السامع من المؤمنين الذين سمعوا ما في القرآن من وصف اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم عن دينهم وشاهد كثير منهم بني إسرائيل في زمانه غير متحلين بما يناسب ما قامت به أئمتهم من الهداية فيود أن يعلم سبب ذلك فكان في هذه الآية جواب ذلك تعليما للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
والخطاب للنبي . والمراد أمته تحذيرا من ذلك وإيماء إلى وجوب تجنب الاختلاف الذي لا يدعو إليه داع في مصلحة الأمة وفهم الدين .
A E والفصل : القضاء والحكم وهو يقتضي أن اختلافهم أوقعهم في إبطال ما جاءهم من ا لهدى فهو اختلاف غير مستند إلى أدلة ولا جار في مهيع أصل الشريعة ؛ ولكنه متابعة للهوى وميل لأعراض الدنيا كما وصفه القرآن في آيات كثيرة في سورة البقرة وغيرها كقوله تعالى ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
وليس منه اختلاف أئمة الدين في تفاريع الأحكام وفي فهم الدين مما لا ينقض أصوله ولا يخالف نصوصه وإنما هو إعمال لأصوله ولأدلته في الأحوال المناسبة لها وحمل متعارضها بعضه على بعض فإن ذلك كله محمود غير مذموم ؛ وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فلم يعنف أحدا واختلفوا بعد وفاته فلم يعنف بعضهم بعضا .
ويشمل ما كانوا فيه يختلفون ما كان اختلافا بين المهتدين والضالين منهم وما كان اتفاقا من جميع أمتهم على الضلالة فإن ذلك خلاف بين المجمعين وبين ما نطقت به شريعتهم وسنته أنبياؤهم ومن أعظم ذلك الاختلاف كتمانهم الشهادة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم ما أخذ عليهم من الميثاق من أنبيائهم .
وضمير ( هو ) في قوله ( هو يفصل ) ضمير فصل لقصر الفصل عليه تعالى إيماء إلى أن ما يذكر في القرآن من بيان بعض ما اختلفوا فيه على أنبيائهم ليس مطموعا منه أن يرتدعوا عن اختلافهم وإنما هو للتسجيل عليهم وقطع معذرتهم لأنهم لا يقبلون الحجة فلا يفصل بينهم إلا يوم القيامة .
( أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مسكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون [ 26 ] ) عطف على جملة ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ) ولما كان ذلك التذكير متصلا كقوله ( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون ) كان الهدي أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملا للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله ( كم أهلكنا من قبلهم من القرون ) معنيين : أحدهما : إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه . وثانيهما : إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم