والتجافي : التباعد والمتاركة . والمعنى : أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة أي يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله ؛ وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي .
والمضاجع : الفرش جمع مضجع وهو مكان الضجع أي الاستلقاء للراحة والنوم . و ( أل ) فيه عوض عن المضاف إليه أي عم مضاجعهم كقوله تعالى ( فإن الجنة هي المأوى ) .
وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام . وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد أصحاب هذا الشأن : .
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وجملة ( يدعون ربهم ) يجوز أن تكون حالا من ضمير ( جنوبهم ) والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة ( تتجافى جنوبهم ) .
وانتصب ( خوفا وطمعا ) على الحال بتأويل خائفين وطامعين أي من غضبه وطمعا في رضاه وثوابه أي هاتان صفتان لهم .
ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته .
ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال ( ومما رزقناهم ينفقون ) أي يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم .
A E ثم عظم الله جزاءهم إذ قال ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) أي لا تبلغ نفس من أهل الدنيا معرفة ما أعد الله لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " فدل على أن المراد ب ( نفس ) في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركبها الخيال من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ ومثل الأشجار من زبرجد والأزهار من ياقوت وتراب من مسك وعنبر فكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات ولا تبلغه صفات الواصفين لأن منتهى الصفة محصور فيما تنتهي إليه دلالات اللغات مما يخطر على قلوب البشر فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " ولا خطر على قلب بشر " وهذا كقولهم في تعظيم شيء : هذا لا يعلمه إلا الله .
قال الشاعر : .
فلم يدر إلا الله ما هيجت لنا ... عشية آناء الديار وشامها وعبر عن تلك النعم ب ( ما أخفي ) لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود .
وقرة الأعين : كناية عن المسرة كما تقدم في قوله تعالى ( وقري عينا ) في سورة مريم .
وقرأ الجمهور ( أخفي ) بفتح الياء بصيغة الماضي المبني للمجهول . وقرأ حمزة ويعقوب ( أخفي ) بصيغة المضارع المفتتح بهمزة المتكلم والياء ساكنة و ( جزاء ) منصوب على الحال من ( ما أخفي لهم ) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جزاء على هذه الأعمال الصالحات في حديث أغر رواه الترمذي عن معاذ بن جبل قال " قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار . قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت " ثم قال " ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) حتى بلغ ( يعملون . . ) الحديث .
( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ 18 ] أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون [ 19 ] وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 20 ] )