و ( من ) في قوله ( من سلالة ) ابتدائية . وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل فقوله ( من ماء مهين ) بيان ل ( سلالة ) . و ( من ) بيانية فالسلالة هي الماء المهين هذا هو الظاهر لمتعارف الناس ؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكون الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضله فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين فتكون ( من ) فتكون ( من ) في قوله ( من ماء مهين ) للتبعيض أو للابتداء .
والمهين : الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به . والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان .
A E والتسوية : التقويم قال تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) . والضمير المنصوب في ( سواه ) عائد إلى ( نسله ) لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف ب ( ثم ) وإن كان آدم قد سوي ونفخ فيه من الروح قال تعالى ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) . وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك فالكلام إيجاز .
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله .
والنفخ : تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع وقد تقدم في قوله تعالى ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) في سورة الحجر .
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله ( وجعل لكم ) التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجعل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريقة الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثر بالامتنان وأسعد بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله ( قليلا ما تشكرون ) . والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره .
والعدول عن أن يقال : وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى ( جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) لأن ذلك أعرق في الفصاحة ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف ولأن كلمة ( الأفئدة ) أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها .
وأفرد ( السمع ) لأنه مصدر لا يجمع وجمع ( الأبصار والأفئدة ) باعتبار تعدد الناس .
وتقديم السمع على البصر تقدم وجهه عند قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) في سورة البقرة . وتقديم ( السمع والأبصار ) هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل .
و ( قليلا ) اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير ( لكم ) و ( ما تشكرون ) في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية ب ( قليلا ) أي أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر . ثم يجوز أن يكون ( قليلا ) مستعملا في حقيقته وهي كون الشيء حاصلا ولكنه غير كثير . ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) . وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدم الشكر سواء .
( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون [ 10 ] ) الواو للحال والحال للتعجيب منهم كيف أحالوا إعادة الخلق وهم يعلمون النشأة الأولى وليست الإعادة بأعجب من بدء الخلق وخاصة بدء خلق آدم عن عدم وخلو الجملة الماضوية عن حرف ( قد ) لا يقدح في كونها حالا على التحقيق