ويجوز أن يكون ( ألف ) مستعملا في صريح معناه . وقوله ( ما تعدون ) أي مما تحسبون في أعدادكم و ( ما ) مصدرية أو موصولية وهو وصف ل ( ألف سنة ) . وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم ( ألف ) مستعملا في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحا للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعا لاحتمال المجاز في العدد .
( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم [ 6 ] ) A E جيء بالإشارة إلى اسم الجلالة بعدما أجري عليه من أوصاف التصرف بخلق الكائنات وتدبير أمورها للتنبيه على أن المشار إليه باسم الإشارة حقيق بما يرد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الصفات المتقدمة كما تقدم في قوله تعالى ( أولئك على هدى من ربهم ) في سورة البقرة لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب أي ما غاب عن حواس الخلق وعالم الشهادة وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس فالمراد بالغيب والشهادة : كل غائب وكل مشهود .
والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرض ولذلك عقب بقوله بعده ( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد ) . وأما عطف ( والشهادة ) فهو تكميل واحتراس .
ومناسبة وصفه تعالى ب ( العزيز الرحيم ) عقب ما تقدم أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم فهو رحيم بهم فيما خلقهم إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها . فهذا سبب الجمع بين صفتي ( العزيز ) و ( الرحيم ) هنا على خلاف الغالب من ذكر ( الحكيم ) مع ( العزيز ) .
و ( العزيز الرحيم ) يجوز كونهما خبرين آخرين عن اسم الإشارة أو وصفين ل ( عالم الغيب ) .
( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين [ 7 ] ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 8 ] ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 9 ] ) خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر ل ( عالم الغيب ) وهو ارتقاء في الاستدلال مشوب بامتنان على الناس أن أحسن خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر . والمقصود : أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا وأخرج أصله من تراب ثم كون فيه نظام النسل من ماء فكيف تعجزه إعادة أجزائه .
والإحسان : جعل الشيء حسنا أي محمودا غير معيب وذلك بأن يكون وافيا بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي فصلابة الأرض مثلا للسير عليها ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس وتوجه لهيب النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينا وشمالا لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق .
وقوله ( خلقه ) قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة ل ( شيء ) أي كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيرا منها .
وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من ( كل شيء ) بدل اشتمال . وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل .
والإنسان أريد به الجنس وبدء خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) أي خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم . ويدل على هذا المعنى هنا قوله ( ثم جعل نسله من سلالة ) فإن ذلك بدئ من أول نسل لآدم وحواء وقد تقدم خلق آدم في سورة البقرة . و ( من ) في قوله ( من طين ) ابتدائية .
والنسل : الأبناء والذرية . سمي نسلا لأنه ينسل أي ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نسل الصوف والوبر إذا سقط عن جلد الحيوان وهو من بابي كتب وضرب