وجيء بالمسند إليه معرفا بالإضافة لإطالته ليحصل بتطويله ثم تعقيبه بالجملة المعترضة التشويق إلى معرفة الخبر وهو قوله ( من رب العالمين ) ولولا ذلك لقيل : قرآن منزل من رب العالمين أو نحو ذلك .
وإنما عدل عن أسلوب قوله ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) في سورة البقرة لأن تلك السورة نازلة بين ظهراني المسلمين ومن يرجى إسلامهم من أهل الكتاب وهم ( الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) ؛ وأما هذه السورة فقد جابه الله بها المشركين الذين لا يؤمنون بالإله الواحد ولا يوقنون بالآخرة فهم أصلب عودا وأشد كفرا وصدودا .
فقوله ( تنزيل الكتاب ) مبتدأ وقوله ( لا ريب فيه ) جملة هي صفة للكتاب أو حال أو هي معترضة .
وقوله ( من رب العالمين ) خبر عن المبتدأ " ومن " ابتدائية .
والمعنى : من عنده ووحيه كما تقول : جاءني كتاب من فلان . ووقعت جملة ( لا ريب فيه ) بأسلوب المعلوم المقرر فلم تجعل خبرا ثانيا عن المبتدأ لزيادة التشويق إلى الخبر ليقرر كونه من رب العالمين .
ومعنى ( لا ريب فيه ) أنه ليس أهلا لأن يرتاب أحد في تنزيله من رب العالمين لما حف بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلا عن مجموعه وما عضده من حال المرسل به من شهرة الصدق والاتسقامة ومجئ مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية .
A E فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفا في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب فالذين ارتابوا بل كذبوا أن يكون من عند الله فهم لا يعدون أن يكونوا متعنتين على علم أو جهالا يقولون قبل أن يتأملوا وينتظروا والأولون زعماؤهم والأخيرون دهماؤهم وقد تقدم ذلك في أول سورة البقرة .
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف ( رب العالمين ) دون الاسم العلم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزلا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية كما قال تعالى ( مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) . وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرا منهم حسدا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبئ عن أنه لا يسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته .
( أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون [ 3 ] ) جاءت ( أم ) للإضراب عن الكلام السابق إضراب انتقال وهي ( أم ) المنقطعة التي بمعنى ( بل ) التي للإضطراب .
وحيثما وقعت ( أم ) فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد ( أم ) . والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعلمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمرا غريبا يقضي منه العجب لدى العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى .
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقا للتعجيب منه حتى لا تغفل عن حال قولهم أذهان السامعين كلفظ ( تقول ) في بيت هذلول العنبري من شعراء الحماسة : .
تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس وفي المضارع مع ذلك إيذان بتجدد مقالتهم هذه وأنهم لا يقلعون عنها على الرغم مما جاءهم من البينات ورغم افتضاحهم بالعجز عن معارضته .
والضمير المرفوع في ( افتراه ) عائد إلى النبي A لأنه معلوم من مقام حكاية مقالهم المشتهر بين الناس والضمير المنصوب عائد إلى ( الكتاب ) .
وأضرب على قولهم ( افتراه ) إضراب إبطال ب ( بل هو الحق من ربك ) لإثبات أن القرآن حق ومعنى الحق : الصدق أي فيما اشتمل عليه الذي منه أنه منزل من الله تعالى . وتعريف ( الحق ) تعريف الجنس المفيد تحقيق الجنسية فيه .
أي هو حق ذلك الحق المعروفة ماهيته من بين الأجناس والمفارق لجنس الباطل . وفي تعريف المسند بلام الجنس ذريعة إلى اعتبار كمال هذا الجنس في المسند إليه وهو معنى القصر الادعائي للمبالغة نحو : أنت الحبيب وعمرو الفارس