وإنما خص بالذكر حال خوفهم من هول البحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوف يعم جميع السفر لأنهم كانوا يسافرون قوافل معهم سلاحهم ويمرون بسبل يألفونها فلا يعترضهم خوف عام فأما سفرهم في البحر فإنهم يفرقون من هوله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عدد فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ .
فأما تسخير المخلوقات فما كانوا يطمعون به إلا من الله تعالى وأيضا كان يخامرهم الخوف عند ركوبهم في البحر لقلة إلفهم بركوبه إذ كان معظم أسفارهم في البراري .
وقد تقدم تعدية الركوب بحرف ( في ) عند قوله ( وقال اركبوا فيها ) في سورة هود . والإخلاص : التمحيض والإفراد .
والدين : المعاملة . والمراد به هنا الدعاء أي دعوا الله غير مشركين معه أصنامهم . ويفسر ذلك قوله ( فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) .
فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها . والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر .
واللام في ( ليكفروا ) لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل ( يشركون ) . والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله ( بما آتيناهم ) فإن الإيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على ( يشركون ) فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة فاللام استعارة تبعية ؛ شبه المسبب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضا عن فاء التفريع .
وأما اللام في قوله ( وليتمتعوا ) بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب . وقرأه قالون عن نافع وابن كثير وحمزة والكسائي وخلف بسكونها فهي لام الأمر وهي بعد حرف العطف تسكن وتكسر وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله ( اعملوا ما شئتم ) وهو عطف جملة التهديد على جملة ( فلما نجاهم إلى البر ) الخ... نظير قوله في سورة الروم ( ليكفروا بما آتيناهم فتمعتوا فسوف تعلمون ) .
والتمتع : الانتفاع القصير زمنه .
وجملة ( فسوف يعلمون ) تفريع على التهديد بالوعيد .
( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون [ 67 ] ) هذا تذكير خاص لأهل مكة وإنما خصوا من بين المشركين من العرب لأن أهل مكة قدوة لجميع القبائل ؛ ألا ترى أن أكثر قبائل العرب كانوا ينتظرون ماذا يكون من أهل مكة فلما أسلم أهل مكة يوم الفتح أقبلت وفود القبائل معلنة إسلامهم .
والجملة معطوفة على جملة ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ) باعتبار ما اشتملت عليه تلك الجملة من تقريعهم على كفران نعم الله تعالى ولذلك عقبت هذه الجملة بقوله ( وبنعمة الله يكفرون ) .
والاستفهام إنكاري وجعلت نعمة أمن بلدهم كالشيء المشاهد فأنكر عليهم عدم رؤيته فقوله ( إنا جعلنا حرما آمنا ) مفعول ( يروا ) .
A E ومعنى هذه الآية يعلم مما تقدم عند الكلام على قوله تعالى ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا ) في سورة القصص وقد كان أهل مكة في بحبوحة من الأمن وكان غيرهم من القبائل حول مكة وما بعد منها يغزو بعضهم بعضا ويتغاورون ويتناهبون وأهل مكة آمنون لا يعدو عليهم أحد مع قلتهم فذكرهم الله هذه النعمة عليهم .
والباطل : هو الشرك كما تقدم عند قوله ( والذين آمنوا بالباطل ) في هذه السورة . و ( نعمة الله ) المراد بها الجنس الذي منه إنجاؤهم من الغرق وما عداه من النعم المحسوسة المعروفة ومن النعم الخفية التي لو تأملوا لأدركوا عظمها ومنها نعمة الرسالة المحمدية .
والمضارع في المواضع الثلاثة دال على تجدد الفعل .
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين [ 68 ] )