و ( بل أكثرهم لا يعقلون ) إضراب انتقال من حمد الله على وضوح الحجج إلى ذم المشركين بأن أكثرهم لا يتفطنون لنهوض تلك الحجج الواضحة فكأنهم لا عقل لهم لأن وضوح الحجج يقتضي أن يفطن لنتائجها كل ذي مسكة من عقل فنزلوا منزلة من لا عقول لهم .
وإنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا ومنهم من أصروا على الكفر عنادا .
( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 64 ] ) هذا الكلام مبلغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى ( بل أكثرهم لا يعقلون ) فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري إلى الحياة نفسها .
واللهو : ما يلهو به الناس أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال .
واللعب : ما يقصد به الهزل والانبساط . وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) في سورة الأنعام .
والحصر : ادعائي كما تقدم .
وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وهي إشارة تحقير وقلة اكتراث كقول قيس بن الخطيم مشيرا إلى الموت : .
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها ولم توجه الإشارة إلى الحياة في سورة الأنعام . ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإشارة لإفادة تحقيرها وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله ( حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ) فذكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سدى .
وأما تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيرا إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو .
ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله ( فأحيا به الأرض بعد موتها ) زاده تصريحا بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحا لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان .
وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قال ( لو كانوا يعلمون ) . وجواب ( لو ) محذوف دليله ما تقدم أو هو الجواب مقدما .
A E ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الذين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 65 ] ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون [ 66 ] ) أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها والمفرع عليه محذوف ليس هو واحدا من الأخبار المتقدمة بخصوصه ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء . والتقدير : هم " أي المشركون " على ما وصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحدانية وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها لا يضرعون إلا إلى الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى المشركين .
وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلها آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم فإنهم يدعون أصنامهم في شؤون من أحوالهم ويستنصرونهم ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله